فى العدد الماضى، أوضحنا فكرتنا عن هذا الحزب، وأنه ليس حزبًا بعينه، ولكنه الحزب الذى يقدم الحل، ووضحنا لماذا يجب أن يكون ديمقراطيًا، وأن الذى يعنينا من الديمقراطية هو الحرية فى الفكر والتعبير، واليوم نوضح لماذا يجب أن يكون الحزب اشتراكيًا أيضًا. الحركة الاشتراكية - أحببنا أم كرهنا - من كبرى الحركات الاجتماعية فى العصر الحديث، وقد أثرت على جماهيره أكثر من أى حركة سياسية أو اقتصادية أخرى، لا يستثنى من ذلك المجتمع الرأسمالى. إن فوكومايا فى كتابه عن «نهاية التاريخ» عاد إلى ماركس أكثر مما عاد إلى آدم سميث، فيلسوف الرأسمالية، وقد توصلت الاشتراكية إلى تكوين أكبر دولة فى العالم الحديث هى روسيا وعدد آخر من الدول. ولم تنل الاشتراكية هذه المنزلة إلا بفضل أمرين: الأول: أنها فى ضمير الجماهير والمفكرين تمثل العدالة، التى رفضتها الرأسمالية، بل مارست أشنع صور الاستغلال، استغلال العمال رجالاً وأطفالاً ونساء، بل المستهلكين وهم عامة الشعب برفع الأسعار وجنى الملايين، ومن الطبيعى أن ينحاز الشعب إلى من يدعو للعدالة ومن يقاوم الاستغلال. وفى ثلاثينيات القرن الماضى، عندما تدخل موسولينى فى شؤون حكومة اشتراكية فى إسبانيا وحرّك قواته نحوها، تداعى المتطوعون من كل العالم، وسافر إلى مدريد عشرات الألوف من الشباب الأشراف لمواجهة الفاشية والدفاع عن الاشتراكية، كانوا أشبه بما حدث عندما غزا الاتحاد السوفيتى أفغانستان وتداعى الشباب المؤمن من كل أنحاء العالم الإسلامى للدفاع عن الأفغان . الأمر الثانى: أنها ظفرت بدعوات وكتابات أعداد كبيرة من المفكرين والباحثين على مدار قرنين من الزمان، من روبرت أوين، هذا الإنسان الرائع متعدد الملكات والمواهب، الذى حاول تحسين ظروف العمل والهبوط بساعات العمل، وتثقيف العمال، وضحى فى هذا السبيل بحصته فى مصنع كبير، وأسس أكبر تكتل عمالى جماهيرى فى القرن التاسع عشر، واستشرف «السنديكالية» - أى حكم النقابات - ثم وضع بذرة التعاون الإنتاجى والاستهلاكى، إلى سان سيمون وفكرته عن الحكومة الصناعية التى ستحل محل الحكومة السياسية، إلى فوربيه، ولوى بلان، وبرودون، الذى أعلن أن الملكية سرقة، ورود برس ولاسال الألمانيين اللذين قدما فكرة الدولة التى تتولى الرعاية الاجتماعية، وبابيف مؤسس جماعة «العدول»، الذى انتقد الثورة الفرنسية، وتنبأ بثورة «اجتماعية» تستهدف العدالة، وقد ذكرنا هؤلاء على سبيل المثال، إلا أنهم أكثر من ذلك، وكل واحد منهم قدم إضافة، وأبدع جديدًا. كانت قضايا العمل، والاقتصاد، والعدل، موضوع اجتهاد، استمر قرنين من الزمن، من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين.. كان فى نصفه الأول أشبه بفترة الاجتهاد الطليق فى الفكر الإسلامى الذى تأبّى على التقنين وسبق ظهور المذاهب، واشترك فى هذا الاجتهاد كل مفكرى أوروبا، وهاجموا الرأسمالية واستغلالها، وقدموا صورًا عديدة بديلة، وتم هذا قبل أن يُصلب ماركس الاشتراكية على صليب «المادية الجدلية»، وقبل أن يظهر لينين ويصلب الاشتراكية مرة أخرى على صليب «ديكتاتورية البلوريتارية»، لكن تيار الفكر الحر، والإيمان باشتراكية ديمقراطية لم يوقفه ظهور ماركس ولينين، وما قاما به، فقد ظهرت خلال الثلاثينيات والأربعينيات عدة مدارس اشتراكية ناقدة للماركسية واللينينية، مثل «الجماعة الفابية» فى بريطانيا و«اللاساليه» فى ألمانيا، بل ظهر من يريد التجديد فى البناء النقابى، بحيث تتولى دورًا أكبر فى الدولة، وكان من دعاة هذا التطوير ج. د. ه. كول، وهو عملاق فى الفكر الاشتراكى (توفى سنة 1959)، وكان هو العقل المفكر لحزب العمال فى سنواته الأولى، وأصدر موسوعة «تاريخ الفكر الاشتراكى» فى سبعة أجزاء. قد يسأل سائل: وما علاقة هذا كله بحزبنا؟ العلاقة أن هذه المعركة الفكرية الكبرى، التى تشاجرت فيها الآراء وعالجها أذكى العقول، جزء من المعرفة الإنسانية فى معالجة «القضية الاجتماعية»، والقضية الاجتماعية واحدة فى كل الدول وفى كل العصور، فهى تقوم أساسًا على أن العمل أصل القيمة وأن العدل أساس التوزيع، وليس هناك ما هو أهم من هذين، أو ما يماثلهما فى أنهما عمق أعماق القضية الاجتماعية الاقتصادية. والكاتب الإسلامى يرى فى هذه الدراسات كلها، على غرابتها وجوها الأوروبى، مصداقاً للآية «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى»، والآية «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».. ولكى يفسر الكاتب الإسلامى هذه الآيات، يجب ألا يقتصر عما جاء فى التفاسير، فهذا لن يعطيه سوى مؤشرات «أثرية تقليدية» تلتبس فيها الخرافة بالحقيقة، وإنما عليه أن يدرس كل ما حدث فى أوروبا خلال فترة الاجتهاد الطليق فى معالجة القضية الاجتماعية، لأنها ستزوده بالمعرفة التى تصلح فى معالجة القضية الاجتماعية بعد وصولها إلى درجة الرأسمالية، ولا أشك فى أن الكاتب الإسلامى إذا لم يقم بهذا فإن معالجته للقضية الاجتماعية ستكون ناقصة، فالمجتمع الحديث يختلف تمامًا عما يصوره الأسلاف المسلمون. *** بظهور كارل ماركس دخلت الاشتراكية فى طور جديد، فبالإضافة إلى ما اتسم به كارل ماركس من عبقرية، فقد كانت تحت يديه هذه الثروة الفكرية التى استفاد، بل أقام عليها نظريته، فنقل من الفيلسوف هيجيل فكرة الجدلية بما معها من حيوية ودينامية، ولكن هيجيل أقام جدليته على أساس مثالى، فى حين أن ماركس أقامها على الأساس المادى، وقال إن هيجيل جعلها تسير على رأسها وأنه جعلها تسير على قدميها، ومع أن الاختصاص الذى اشتهر به ماركس هو الاقتصاد، فإنه فى الحقيقة كان «حضاريًا»، وقد نال الدكتوراه من جامعة فيينا سنة 1842 عن «اختلاف فلسفة الطبيعة عند ديمقريط وعند أبيقور»، كان دارسًا للتاريخ، والحضارة، والفلسفة، وأدت هذه الدراسات به إلى «الجدلية المادية»، وبالتالى إلى الاقتصاد، والإنتاج والعمل .. إلخ. كان ماركس مؤهلاً ليقوم بدوره، كما أشرنا، بحكم ما تيسر له من مادة وعلم، كما أنه رزق إيماناً يشبه الإيمان الدينى، زوده بقوة النضال وجعله يجابه كل التحديات. ولكن المأساة أنه كان بقدر ما يتوغل فى الدراسة بقدر ما تدفع به الدراسة إلى تجريد نظرى، وبقدر ما تبعده عن الواقع الإنسانى، ولهذا توصل إلى المادية الجدلية التى يتطور فيها المجتمع على أساس التفاعل الجدلى الذى يتطور، لأنه يخضع لعملية التفاعلات الجدلية التى سبقته ثم وضع المادية التاريخية التى طبقت فيها المادية الجدلية على تاريخ البشرية، وخرج بأن تاريخ البشرية يدور ويلف حول الصراع ما بين وسائل الإنتاج وملكية وسائل الإنتاج، وما يتفرع عن هذين. كان ماركس مصيبًا عندما نقد الرأسمالية وعرّاها، وانتهى إلى أنها ليست النظام القابل للإصلاح لأن تناقضاته جزء لا يتجزأ منه، وكان مصيبًا أيضًا عندما أعطى العامل المادى الأهمية العظمى فى تطور البشرية، ولكنه أخطأ عندما استحوذت عليه الدراسات النظرية فأخذته من عالم الإنسان، فكانت المادية الجدلية والتاريخية نوعًا من القدر الذى يحكم الإنسان. ولاحظ التوسير انحراف ماركس فى كتاباته الأخيرة عن كتاباته الأولى ذات الطابع «الإنسانى»، وهذا هو سر افتقاد الماركسية العنصر الإنسانى الذى سمح فيما بعد بالحكم الديكتاتورى والقضاء على الحرية وإبادة الألوف والملايين من البشر، كما لم يكن مصيبًا عندما ركز على العامل المادى وحده، بحيث ظُن أن الماركسية لا تعترف بالعوامل الأخرى كالقيم، وهو أمر نفاه إنجلز. *** وتقف دراستنا للاشتراكية عند ماركس، لأن لينين صاحب الشهرة المدوية لم يقدم تنظيرًا للاشتراكية، ولكن طريقة لتطبيقها تقوم على الحزب الشيوعى الذى هو «طليعة الطبقة العاملة»، وهو الحزب المحترف الذى يدير شؤون الدولة، لأن «البرويتاريا» فيها الواعى والساهى القوى والضعيف، فلا يمكنها أن تتولى الحكم. وإذا كان فى التطبيق اللينينى ما يقدمه، فهو أن انعدام الحرية لابد أن يؤدى إلى انهيار أى نظام مهما بذل فيه من جهد، ومهما اقترن بإيمان. فى النهاية، نصل إلى أن معالجة القضية الاجتماعية - الاقتصادية فى العصر الحديث لابد أن تستوعب الدراسات الاشتراكية بما فيها الماركسية لأنها ستقدم إليها أفضل المعالجات والحلول، ومن الخطأ الفاحش أن يظن أن ذلك لا يدخل فى دور الدارس المصرى أو المفكر الإسلامى، على العكس أنه لازم، فضلاً عن أنه سيدعم على نقيض ما يظن الناس التوجه الإسلامى للحزب، لأن خلاصة الاشتراكية هى «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى» (النجم: 39)، «.. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..» (النساء: 58).