يتبين يوميا، مع تراكم الأحداث أن الوضع في الشرق الأوسط كله ليس طبيعيا. لكن الصعود التركي في مواجهة السياسية الهجومية لإيران يعكس إلي حد كبير نشوء توازنات جديدة في المنطقة في ظل الغياب العراقي. لا دليل علي هذا الغياب أكثر من الواقع المتمثل في أن ثلاثة أشهر مرت علي الانتخابات العراقية والبلد لا يزال من دون حكومة. وفي حال تسمية رئيس للحكومة قريبا لن يكون ذلك في معزل عن إيران التي وضعت فيتو علي الدكتور إياد علاّوي الذي كان علي رأس «القائمة العراقية» التي فازت بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات السابع من مارس الماضي. وفي حال كلّف علاوي تشكيل الحكومة، ستوضع عليه شروط تعجيزية، كي يستسلم للمطالب الإيرانية... أو يفشل. كان طبيعيا إعطاء رئيس اللائحة التي أحرزت أكبر عدد من المقاعد فرصة تشكيل حكومة استنادا إلي القوانين والاصول المعمول بها في العراق منذ إطاحة النظام السابق. ولكن ما العمل عندما يكون هناك من يريد إثبات أن الانتخابات لا معني لها وان هناك منتصرا وحيدا في الحرب الأمريكية علي العراق وأن هذا المنتصر ليس الولايات المتحدة! أجري النظام في إيران عملية قيصرية أدت إلي تحالف جديد ذي طابع مذهبي من أجل قطع طريق رئاسة الحكومة علي الدكتور علاوي أو جعله يستسلم. يحصل ذلك علي الرغم من أن علاّوي يحظي بتأييد شعبي كبير في الأوساط الشيعية والسنية وحتي الكردية ولدي كل من لديه حد أدني من الشعور الوطني في العراق. يبدو مطلوبا أكثر من أي وقت أن يكون العراق مجرد «ساحة» لإيران علي غرار ما عليه الوضع في لبنان، إلي حدّ ما طبعا. مورست في لبنان ضغوط شديدة لتأكيد أن الوطن الصغير ليس سوي امتداد لمحور إقليمي يبدأ في طهران وأن عليه بالتالي التصويت ضد العقوبات الجديدة التي فرضها المجتمع الدولي علي النظام الإيراني عن طريق مجلس الأمن. قاوم لبنان الضغوط بكل أنواعها واعتمد، عبر الامتناع عن التصويت، منطق العقل والتعقل في مواجهة الهجمة الشرسة التي يتعرض لها تحت شعارات مضحكة- مبكية من نوع «المقاومة» وما شابه ذلك. في أساس الخلل الإقليمي ما شهده ويشهده العراق. لا يمكن بالطبع الدفاع عن النظام السابق الذي أسقطه الأمريكي لأسباب لم تتضح بعد، مستندا إلي تبريرات لا علاقة لها بالحقيقة. ولكن لا يمكن في الوقت ذاته تجاهل أن المنطقة تبحث عن صيغة جديدة في ضوء الغياب العراقي. لقد نشأ الشرق الأوسط الجديد في العشرينيات من القرن الماضي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. كان العراق إحدي الركائز الأساسية للنظام الاقليمي الجديد. كان في الوقت ذاته ركنا من أركان المثلث الذي يحافظ علي التوازن الإقليمي الذي يضمه مع تركيا وإيران. الآن انهار المثلث ولا بدّ من ملء الفراغ الناجم عن ذلك. في انتظار ملء هذا الفراغ الذي تشجع عليه سياسة أمريكية غير واضحة تقوم علي فكرة الانسحاب من العراق عسكريا ضمن المهل الزمنية التي التزمتها إدارة باراك أوباما، تبدو حال المخاض مرشحة للاستمرار طويلا. المؤسف أن تسارع وتيرة الأحداث لا يساعد العرب عموما - هذا إذا كان هناك من موقف عربي موحد - والفلسطينيين خصوصا علي التقاط أنفاسهم. الأكيد اليوم أن هناك تنافسا، بل صراعا، علي العراق. هذا الصراع لن ينتهي بين ليلة وضحاها. علي العكس من ذلك، تبدو معركة العراق معركة طويلة جدا وفي غاية التعقيد في آن، نظرا إلي أهمية البلد علي صعيد بناء النظام الاقليمي أولا وإلي موقعه الجغرافي وثرواته ثانيا وأخيرا. طول المعركة لا يعفي من طرح أسئلة في غاية الأهمية. من بين الأسئلة ماذا يجري داخل إيران نفسها وهل طبيعي استمرار الوضع الراهن؟ هل طبيعي: أن يظل الشعب الإيراني بحضارته العريقة تحت حكم «الحرس الثوري» الذي نفّذ انقلابا بكل معني الكلمة ووضع حدا لأي عملية تطوير للنظام؟ وماذا عن تركيا؟ هل تتابع التصعيد مع إسرائيل وما الذي ستفعله في مرحلة ما بعد التصعيد الكلامي؟ وماذا عن إسرائيل نفسها وحكومتها المتطرفة التي لا تدري أن هناك حدودا لمنطق القوة وإرهاب الدولة؟ في كل الأحوال، ما يبدو مؤسفا غياب العرب عن المعادلة الشرق أوسطية. غيابهم يتجلي في عجزهم عن لعب أي دور بناء في العراق من جهة أو قول كلمة حق في شأن ما يجري علي أرض فلسطين... بما في ذلك إن القضية ليست قضية غزة والمتاجرة بغزة. إنها قضية شعب يريد الانتهاء من الاحتلال ويريد الحصول علي حقوقه الوطنية عبر قيام دولة مستقلة، عاصمتها القدسالشرقية، استنادا إلي خطوط عام 1967. هل تذهب الحقوق الفلسطينية ضحية حال المخاض التي يمر بها الشرق الأوسط؟