يرتدي الحدث العراقي في هذه الأيام، خصوصا بعد تفجيرات الأربعاء الأسود قبل أسبوعين في بغداد أهمية استثنائية. قبل كل شيء، كشفت هذه التفجيرات التي تلاها توتر بين دمشق وبغداد هشاشة الوضع الأمني في العراق كله. استهدفت التفجيرات، التي أدت إلي سقوط مئات القتلي والجرحي، أكثر المناطق أمنا وحماية في العاصمة العراقية نفسها، بما في ذلك وزارة الخارجية ووزارة المال ومؤسسات رسمية أخري. وهذا يعني في طبيعة الحال أن هناك اختراقا في العمق للأجهزة الأمنية العراقية وأن هذا الاختراق ليس من النوع العادي أو الذي يمكن إصلاحه بسهولة. إنه اختراق يعكس غياب القدرة علي بناء دولة عراقية متماسكة قادرة حتي علي حماية المؤسسات الرسمية التابعة لها. إن الأسبوعين اللذين مرا علي "الأربعاء الأسود" العراقي كافيان للتفكير في أبعاد الحدث ومدي خطورته ليس علي العراق فحسب بل علي كل المنطقة المحيطة به أيضا. بعد أسبوعين علي الكارثة التي لا تشبه، بالنسبة إلي العراق، سوي كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدة، بات مشروعا طرح سؤالين أساسيين. السؤال الأول هل في الإمكان استعادة العراق الموحد؟ أما السؤال الآخر فهو مرتبط بمدي تأثير تفكك العراق علي الدول المحيطة به. بكلام أوضح أن العراق ليس سوي أحد أعمدة النظام الإقليمي. والمساس به بمثابة مساس بالنظام الإقليمي كله وبالتوازنات التي تحكمت بالشرق الأوسط منذ مطلع العشرينبات، أي منذ انهيار الدولة العثمانية. ليس سرا أن كولن باول وزير الخارجية الأمريكية إبان الحرب الأمريكية علي العراق قال العبارة التي لم يكن يفترض به قولها. أعلن باول لدي بدء الحرب أن الهدف الأمريكي "إعادة تشكيل المنطقة". ما نشهده حاليا هو بالفعل إعادة تشكيل للشرق الأوسط انطلاقا من العراق. إن العراق الفيدرالي ليس سوي مقدمة لتقسيم العراق علي أسس طائفية ومذهبية وعرقية. من حق الأكراد في هذه الحال البحث عن حماية مصالحهم آخذين في الاعتبار أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تتفق عليه إيران وتركيا وسوريا هو منع قيام كيان كردي مستقل. ولكن ماذا عن جنوب العراق وماذا عن بغداد نفسها. هل يمكن لإيران التي كانت المنتصر الأول والوحيد من الحرب الأمريكية التخلي عما تعتبره حقا مشروعا لها في ملء الفراغ الناجم عن سقوط الدولة المركزية في العراق؟ هل يمكن لتركيا القبول بهيمنة إيرانية علي جزء من الأراضي العراقية من دون الحصول علي تعويض ما في منطقة كركوك علي سبيل المثال حيث هناك وجود لأقلية تركمانية مهمة؟ هل يمكن لسوريا الطامحة إلي دور إقليمي أن تخرج من اللعبة العراقية من دون قبض ثمن ما، خصوصا أن في الأراضي السورية حاليا نحو مليوني عراقي فروا إليها هربا من العنف والتفجيرات وحملات التطهير العرقي؟ من الباكر جدا التكهن بما سيكون مصير العراق. المطروح ليس فقط مصير هذا البلد الذي كان إلي ما قبل فترة قصيرة عضوا مؤسسا في جامعة الدول العربية. المطروح مصير المنطقة كلها. الحدث العراقي ليس سوي بداية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط فعلا. كان العراق من أركان النظام الإقليمي، بل ركيزة أساسية فيه. هذه الركيزة انهارت كليا. ليس معروفا ما إذا كانت إيران ستتمكن من تحقيق حلمها العراقي علي الرغم من أنها تمتلك أوراقا عدة في كل منطقة من المناطق العراقية، بما في ذلك ميليشيات مذهبية تابعة لها، إضافة إلي أنها تتحكم بقسم لا بأس به من الإدارات العراقية بما في ذلك الإدارات والمؤسسات الأمنية. في النهاية، لدي إيران مشاكلها الداخلية الكبيرة، كما أن اقتصادها قد لا يسمح لها في المدي الطويل بالاستمرار في السياسة التوسعية التي تنتهجها منذ ما يزيد علي ربع قرن. الأمر الوحيد الأكيد أن توازنات جديدة ستنشأ في الشرق الأوسط. لا شك أن تركيا ستكون لاعبا أساسيا في المنطقة نظرا إلي أنها حاضرة في كل مكان فيها. إنها حاضرة في العراق وحاضرة في سوريا وحاضرة في لبنان من خلال مشاركتها في القوة الدولية الجديدة التي انتشرت في جنوبه نتيجة صدور القرار الرقم 1701 صيف العام 2006. أكثر من ذلك، أن تركيا حاضرة بين سوريا وإسرائيل وتربطها علاقات بالسلطة الوطنية الفلسطينية كما لديها بعض النفوذ لدي "حماس"، علما أنها تجري مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل والولاياتالمتحدة. ما يشهده العراق حاليا من تجاذبات داخلية وأحداث أمنية في غاية الخطورة ليس سوي الجزء الظاهر من جبل الجليد. المنطقة مقبلة علي تغييرات كبيرة. الزلزال العراقي لا يزال في بدايته. كل ما فعله جورج بوش الابن في العام 2003 كان فرط العراق. هل كان يعتقد بعقله الساذج أنه في الإمكان إعادة لملمة البلد تحت شعاري "الفيدرالية" و"الأكثرية الشيعية"، أم أن الذين خططوا للحرب ولإسقاط نظام صدام حسين، غير المأسوف عليه، كانوا يعرفون تماما ما الذي يريدونه علي صعيد المنطقة ككل؟ إن الشرق الأوسط الذي عرفناه منذ عشرينيات القرن الماضي لم يعد قائما. المؤسف أن هناك بين العرب من لا يزال يتصرف وكأننا لا نزال في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين في حين تركيا وإيران في قلب العالم العربي وإسرائيل تقف موقف المتربص المستعد لانتهاز أي فرصة لتأكيد أنه لا يمكن أن تترك كل الأدوار لتركيا وإيران وحدهما...