مأساة أوديب، يعرفها رجال المسرح بوصفها واحدة من أهم المسرحيات الإغريقية، وهي أسطورة في الأصل، صاغها سوفوكليس علي هيئة مسرحية. وعلي مر العصور تناولها عدد كبير من الكتاب ومنهم كاتب هذه السطور وأعادوا صياغتها لتبرز وجهة نظرهم في هذه المأساة، مدينة طيبة اليونانية تعاني مشكلة كبيرة لا تعرف لها حلا، ظهر فجأة علي الطريق الوحيد المؤدي إليها وحش كبير له جسم حيوان ووجه إنسان (أبو الهول، أو الهولة) وقطع الطريق علي المسافرين، كان يوجه إليهم سؤالا أو لغزا بمعني أدق: من هو ذلك الكائن الذي يمشي في الصباح علي أربع وظهرا علي قدمين وعند الغروب يمشي علي ثلاث؟ من كان يعجز عن تقديم الإجابة الصحيحة كان يقفز عليه ويلتهمه علي الفور، وعند وصول أي شخص إلي حل اللغز، وهو ما لم يحدث، ينسحب هذا الوحش خائبا أو يموت. فشل كل المتسابقين في تقديم الإجابة السليمة ودفعوا حياتهم ثمنًا لذلك. توقف حال البلد وانهار اقتصاده بعد أن قضي الوحش علي حرية المرور التجارية منه وإليه. فقرر حكماء المدينة رفع قيمة الجائزة أن يكون ملكا علي المدينة وأن يتزوج الملكة بعد أن غاب الملك واختفي في ظروف غامضة. غامضة علي أهل المدينة ولكن المتفرج يعرف أن أوديب قتله إثر مشادة بينهما علي من يعبر الطريق أولا، والمأساة هنا أن الملك كان والد أوديب. أوديب لا يعرف ذلك بالطبع، فقد تربي بعيدا بعد نبوءة تقول إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، لقد حرص الملك علي إبعاده لكي يتفادي قدره. ولكن هل يستطيع أحد الإفلات من قدره؟ وتمكن أوديب من تقديم الإجابة، فانتحر الوحش علي الفور، كانت الإجابة هي: الإنسان.. في بداية العمر يمشي علي أربع وعندما يكون شابا يمشي علي قدمين وعندما يطعن في السن يستعين بعصا فيمشي علي ثلاث. الإنسان ليس الحل لهذا اللغز فقط، بل هو الحل لكل أخطار كل الوحوش البشرية. لقد احترت في تفسير اختيار العقل الجمعي الذي صنع الحدوتة لوحش له وجه إنسان ويقال، وجه امرأة وهو بالحتم جميل. لماذا لم تقل الحدوتة إنه غول مثلا، ألم يكن ذلك يفي بالغرض؟ لابد أن هناك رسالة مختبئة في طيات هذا الاختيار، مدينة يتهددها الخطر، وحش يربض بالقرب من أسوارها يلقي عليها بأسئلته ويطلب الإجابة الصحيحة. أليس هذا هو حال المجتمعات في كل مراحل التاريخ؟ أليس هذا هو العنصر الأساسي والأكيد في دنيا السياسة؟ تصور نفسك صانع القرار في بلد ما، في كل لحظة سيدخل عليك مساعدوك يحملون قضايا (أسئلة) محيرة أشبه بالألغاز وعليك أن تقدم الإجابة الصحيحة وإلا غامرت بضياع بلدك. وفي دائرة الحكم الضيقة المخيفة التي تعج بالأذكياء والأغبياء والشجعان والجبناء والمتهورين والحريصين، ستجد حولك من يشير عليك بعشرات الحلول (الإجابات) التي تبدو صحيحة. سيقدم لك كل منهم الحل علي طبق مقنع من المنطق السليم، غير أن القرار السياسي الصحيح، سيظل إلي الأبد هو خلق واقع جديد قابل للنمو والازدهار. أي قرار سياسي لا يخلق واقعا جديدا يجلب المزيد من الحرية المسئولة للبشر، هو قرار خاطئ. ومع الحرية يأتي الخير في كل مجالات الحياة. ومع الحرية أيضا تتسع دائرة المسئولية، وبذلك تكون المسئولية وليدة الحرية وفي غيابها يتحول البشر في أفضل الأحوال إلي عرائس خشبية. ومع الحرية تأتي المؤسسات الرقابية القادرة علي حماية الحرية والأحرار.