هل جربت أن تخرج في رحلة سفاري؟ تتجرد من كل ما هو معتاد ومرتب، لتذهب إلي حيث المجهول والمفاجآت. في مساحات علي كوكبنا تبدو كأنها خارج الزمان والمكان الذي نحياه وندركه بأبصارنا، صحراء لا أول لها ولا آخر.. وكلما كان «المرشد السياحي» بارعاً كشف لك من حجب ذلك العالم الساحر! هكذا سافرنا مع صنّاع مسرحية «أوديب وشفيقة»، في رحلة خارج الزمان والمكان، والمعقول أيضاً. «أوديب»، أسطورة «سوفوكليس» التي ألهمت عشرات، بل مئات المؤلفين والأدباء العرب والغربيين، كلٌ يراها كما يجسدها له خياله، وربما يلبسها بعض ذاته، استحضرها المؤلف «أحمد الأبلج» هنا، لا لكي يروي لنا المأساة، ولا ليحلل العقدة النفسية، ولكن ليعالج أوديب من مرض تعذيب ذاته، والشعور بالذنب، وليكشف له أنْ لا ذنب له فيما حدث، فلا هو كان يدري أن ذلك الذي قضي عليه بيديه هو والده، ولا كان يعلم أن من تزوجها بعد ذلك وأنجب منها هي أمه، وعليه فقد عاد إلي أوديب بصره -بعد إن كان فقأ عينيّ نفسِه عقاباً لذاته علي ما اقترف- وليري النور والحقيقة. في عرض بدأ بمولد -عصري- لسيدي الحناوي خرجت «شفيقة» من حدوتتها الشعبية، هي هنا شريفة، يتيمة، تربت في رعاية المعلم صاحب المقهي وزوجته، ترفض محاولات إغوائها بالزواج من العمدة اعتزازاً بنفسها، وترفعاً عن منح جسدها لمن يدفع أكثر. صنع المؤلف لشفيقة نشأة وظروف تتشابه مع تلك التي عاشها أوديب، كل منهما لايعرف أصله، وكل منهما لايدري مصيره.. وكل منهما بريء. وبشكل أشبه بصيغة الراوي، حكي لنا أبطال العرض جميعاً القصتين، وقرروا أن يكشفوا الحقائق لأوديب وشفيقة عن طريق التمثيل، عرض داخل العرض. تنقلت المَشاهد بين أسطورة أوديب وحدوتة شفيقة والحكاية العصرية بنعومة شديدة، بل وبشكل خاطف جذاب، من خلال الحكاية العصرية نري الأستاذ نجيب -القدير مصطفي طلبة- جالسًا علي المقهي مع بعض تلامذته ومجموعة من أهل القرية، وبعد أن يأتينا صراخ أهل القرية منذرًا بأن غريباً قد دخل القرية، هو يهذي بأنه قد تزوج بأمه وأنجب منها يدخل عليهم أوديب بملابسه الأسطورية مستنداً إلي ابنته «أنتيجونا» بعد أن كفَّ بصره، فيدورحوارخفيف الظل بين الأستاذ نجيب وأحد تلامذته، الذي كان ممثلاً فاشلاً وأصبح مخرجاً، يبادلان من خلاله تفاصيل الحكايتين مع أهل القرية، ويقرر المخرج -أحمد البنهاوي- أن يقدم كل ذلك من خلال عرض مسرحي، ويقومون جميعاً بتجسيد الأدوار بعد اتفاق معلن، فتقوم المعلمة صاحبة المقهي - ناهد رشدي - بدور الملكة التي تبنت أوديب، وزوجها -أحمد أبوعميرة- هو الملك، وتجسد الراقصة - عايدة فهمي - شخصية «جوكاستا»، أمه الحقيقية التي تزوجها، وقدم «شادي أسعد» دورين، هما وجهان لرجل الدين المنافق الذي يفسد الحاكم، أو يخدعه، هو الدرويش المجذوب في الحكاية العصرية، وهو الكاهن في الأسطورة.. برعوا جميعاً في الأداء، ومعهم القدير «محمد عبدالفتاح» في دور العمدة، والشابان «عادل رأفت» و«رضوي شريف» في دوري أدويب، وشفيقة لن تجد لحظة انطفاء واحدة، فالكل يؤدي بإحساس حقيقي وبحضور تكاد تلمسه، واختفاء المسافة بين المسرح ومقاعد الجمهور -لصغر حجم القاعة- سيحملك بينهم إلي عالم الأسطورة، جاء الحوار ملائماً تماماً لروح الفكرة، فبين الفصحي السهلة، والعامية، شعرية الملحمة التي صاغها سامح العلي بحساسية شديدة، وأبدع فادي فوكيه في تصميم ديكور غني بالتفاصيل رغم الإمكانات المحدودة، وأتساءل: إذا كان المخرج «عاصم رأفت» قد نجح في السفر بخيالنا إلي كل تلك الآفاق الرحبة من خلال هذه القاعة الصغيرة للغاية، بإمكاناتها المحدودة، فماذا لو أتيح له تقديم هذا العرض علي خشبة مسرح أوسع، وبميزانية أكبر؟! بحثُنا عن الحقيقة، وعن جذورنا، وسؤالنا الدائم عن مدي تحكمنا في مصائرنا، وماذا لو تغير ماضينا، كل ذلك لخصه العرض في سؤال كرره أوديب وشفيقة: من أنا؟ في غير إلحاح، ولا محاولة لادعاء امتلاك الإجابات، وببساطة شديدة يترك لك العرض شعوراً بالتفاؤل، ليس لأنك تملك تغيير الحقيقة، وإنما لأن الأقدار يمكنها أن تمنحك ذلك، لتنقلب حياتك في لحظة، كما حدث لأوديب وشفيقة، التي انتهت مأساتهما بالزواج، والزغاريد!! ولأنه لا يوجد في قاعة مسرح الغد «الصغيرة» ستارٌ يسدل، فإنك ستخرج من القاعة تاركاً خيالك في سفره البعيد.