من الأقوال الشائعة في السياسة مقولة كلاوزفتز الشهيرة " إنك لن تستطيع بالتفاوض الوصول إلي أكثر ما تستطيع مدافعك الوصول إليه" والتفاوض بطبيعته شكل من أشكال الحوار.. ومن أقوال كيسنجر الشهيرة "عندما يتوقف الحوار يبدأ القتال" لذلك كان الحوار ليس فقط أداة للتفاوض، بل ضرورة حتمية من أجل الوصول إلي السلام. والسلام ليس فقط وقف إطلاق النار علي جبهات القتال المشتعلة بين فريقين أو أكثر، بل هو العلاقات الطبيعية بين حكومتين ودولتين وشعبين وبغير هذه العلاقات يتآكل السلام كأعمدة الجسور المختبئة تحت الماء مهددا بانهيارها في أي لحظة وهذا ما سنقيم حالا الدليل عليه. العلاقات الطبيعية ليست جوهر السلام بل هي السلام نفسه، وإذا كانت الحرب تصيب الأطراف المتحاربة بالخسارة حتي للمنتصر فيها، فالسلام يجلب لهم المكاسب، تلك المكاسب الناتجة عن الإنتاج والإنجاز في جو آمن لا تهدده طلقات المدافع وقنابل الطائرات وهدير المدرعات، أي بعد التخلص من أجواء الحرب وانفعالاتها التي تشل عقول البشر وتفسد عليهم حياتهم وتمنعهم من الإنجاز في كل مناحي الحياة. والوصول إلي السلام الذي قلنا إنه هو ذاته العلاقات الطبيعية، لا يعني نهاية الصراع بين الأطراف المسالمة، بل يعني تحول هذا الصراع المسلح إلي شكل آخر من أشكال السلوك الإنساني هو المنافسة. وهي ليست منافسة مقصودة أو عمدية أو هدفا في حد ذاتها بل هي تتولد تلقائيا داخل نفوس البشر في اللحظة التي يسالمون فيها بعضهم البعض. فمن الناحية السيكولوجية من المستحيل أن تتخلص الناس في أيام أو حتي في أعوام من الآثار التي نتجت عن صراع الحرب الطويل بما خلفه من آلام وذكريات بغيضة، ولذلك تتحول هذه الانفعالات بقوة الحياة الكامنة في البشر من صراع الحرب إلي تنافس السلام. هكذا تكون العلاقة بين فريقين كانا متحاربين وتوصلا إلي السلام، علاقة تعاون طبيعية غير أن جوهرها هو التنافس. هو تنافس حميد في كل الأحوال سلاحه الأفكار المبدعة والأفعال المفيدة للبشر. في غياب الرغبة في التنافس الطبيعي مع الآخرين والتي تتحقق بها ذاتية الفرد والجماعة يتراجع الإنسان إلي صفوف الدنيا الأخيرة وربما حتي لا يجد له مكانا في مبني الحياة ذاتها. عدم القدرة علي تحويل صراع الحرب إلي تنافس السلام يصيبنا نحن وليس الآخرين في مقتل لأنه يحرمنا من الاشتراك في المباراة. عدم القدرة علي إقامة علاقات طبيعية بينك وبين عدوك الذي سالمته ينتج عنها انعدام وجود العلاقات الطبيعية بين البشر في صفوفك، فعندما يعجز الفرد عن أن يكون طبيعيا مع الآخرين فمن المستحيل أن يكون طبيعيا مع نفسه وهذا في رأيي ما يفسر تلك العصبية الزائدة وغير المفهومة أو المبررة التي تتعامل بها النخبة الإعلامية مع بعضها البعض. نحن لا نخشي شيئا، ولا يجب أن نخشي شيئا فنحن أقوي بكثير من فكرتنا عن أنفسنا. وحضارتنا القديمة التي أبقتنا أحياء علي الأرض حتي الآن مع كراهيتي للحديث عن أمجاد الماضي ليست موجودة في المتاحف أو بين صفحات الكتب أو مبعثرة في البلاد علي هيئة تماثيل ومعابد وأهرامات، بل إن الأصل محفوظ في أعمق أعماقنا، كنوز من العلم والعقل والحكمة والشجاعة والرقة والتهذيب، مطمورة بداخلنا تحت كثبان رملية ثقيلة من الأفكار والمفاهيم الخاطئة، علينا فقط أن نحفر بداخلنا لكي تظهر كنوزنا ومعادننا الأصيلة ليس لكي نزهو بها أمام الناس ولكن من أجل تحويلها إلي أدوات تنافس مع العالم.