من المستحيل أن تتحمس الناس للسلام بغير أن تدرك ما تفعله بهم الحرب وما تسببه لهم من آلام وخراب، لأن معظم الناس يفتقرون للخيال اللازم لإدراك مدي ما تفعله بهم وحشية الحرب، والحرب هي أشد أنواع النشاطات البشرية حماقة وغباء غير أنها في الوقت نفسه للأسف الشديد أكثر عناصر التاريخ حسما بما تخلقه من واقع جديد ليس بالضرورة أفضل من الواقع القديم. والحرب بالتعريف هي تدمير قوات العدو ومعداته لفرض شروط السلام عليه، غاية الحرب إذن هي الوصول إلي السلام وليس شيئا آخر. هذا هو التعريف الكلاسيكي للحرب وحتي الآن لم أعثر علي تعريف آخر من الممكن أن يحل محله. إيقاف إطلاق النار ليس هو السلام، وتأجيل الحرب بعقد هدنة لفترة زمنية تطول أو تقصر ليس هو السلام، وحالة اللاحرب واللاسلم من المحتم أن تقود للحرب وليس إلي السلام وذلك لحرصها علي الاحتفاظ بطاقة الكراهية محتبسة في صدور الناس في انتظار شرارة تشعلها، لاشيء في عواطف البشر أشد قوة من الكراهية التي تملأ قلوب الناس وعقولهم بالفزع من الآخر. والحرب أيضا اختيار وحيد بمعني أنها الاختيار الأخير وليس الاستراتيجي، أي أنها من المستحيل أن تكون هدفا نهائيا حيث إن النهائي دائما هو السلام.. نتيجة لذلك كان من المستحيل علي رجل الدولة أن يتحرك في اتجاه الحرب في حال أن تتوفر لديه اختيارات أخري تبعده عنها، هنا نتكلم عن الدبلوماسية وليغفر لي رجال الدبلوماسية المحترفون معرفتي الضئيلة بها، فلست أكثر من مواطن بسيط من آحاد الناس منشغل بأحوال هذه الآحاد ويبحث عن الطريقة المثلي التي تتحقق بها مصالحهم الدبلوماسية هي آخر ما وصل إليه البشر من إبداع يمنعون به الحرب ويحافظون به علي السلام، إنها فن الوفاق مع الآخر وهو ما يتطلب فهم هذا الآخر والحرص علي عدم انقطاع السلك معه.. لابد أنك تشعر بالدهشة من استخدامي لكلمة (السلك) غير أن دهشتك لابد أن تخف أو تتلاشي عندما تتذكر أننا في اللغة العربية نستخدم تعبير السلك الدبلوماسي،، نعم، الدبلوماسية هي مجموعة معقدة من الأسلاك تربط الدبلوماسي بالعالم كله وعليه أن يمسك بها جميعا بقوة ومرونة ولطف لتحقيق الأهداف السياسية لبلاده، إن كل سلك ينقطع منها يفتح للكراهية بابا تدخل منه لتعلن الحرب. يالعبقرية اللغة العربية التي أسمت الطريقة التي يتعامل بها الإنسان.. سلوكا. في اللحظة التي تتراخي فيها أصابعك علي سلك من هذه السلوك تفقده علي الفور، وعندما نصور الأمر علي أن العالم كله قد ترك المعركة الدبلوماسية في أيدي إسرائيل فالمعني الحقيقي لذلك هو أننا عجزنا عن الإمساك بهذه السلوك وتركناها لإسرائيل تلعب بها كما تشاء. إن أهم عنصر لازم لحل أي مشكلة هو أن تكون قابلة للحل، وعلينا أن نشرح للآخرين كيفية مساعدتنا في حلها، أما عندما نحرص علي إظهار مشاكلنا علي أنها غير قابلة للحل وأنها أبدية الطابع، فلايجب حينئذ أن نشعر بالصدمة عندما يقطعون معنا كل الأسلاك، ويسلكون معنا مسلكا يتسم باللامبالاة، علينا في كل الأحوال تذكر قاعدة مهمة في الدبلوماسية (كيسنجر) عندما يتوقف الحواريبدأ القتال. لا يجب أن نخدع أنفسنا بالقول إن المجتمع الدولي بتنظيماته المتعددة في الخمسين عاما الماضية إما أنه كان يخدعنا أو ينوّمنا أو يعمل ضدنا، فمن الصعب علي الاعتقاد أن المجتمع الدولي ليس سوي طغمة من المحتالين الأشرار، وحتي لو افترضنا صحة هذه المقولة فلابد أن ننشغل بالبحث عن الإجابة عن سؤال مهم هو .. ماذا فينا يغريه بذلك؟ لماذا لم يمارس المجتمع الدولي ميوله الاحتيالية مع الرئيس السادات؟ لماذا ساعده علي الوصول مع إسرائيل إلي اتفاقية سلام ثم واصل مساعداته لسنوات طويلة للحفاظ علي هذا السلام؟ أليست الإجابة هي أنه كان صادقا ومخلصا في دعوته للسلام فوقفت معه أمريكا والعالم كله إلي أن تمكن من الحصول علي سلام مشرف لم يخسر فيه ذرة تراب واحدة من أرض مصر؟ لم تمت عملية السلام بل أزعم أن الحرب في لبنان بما حوته من وحشية وضراوة ستجعل سكان هذه المنطقة أكثر وعيا بحتمية الوصول إلي السلام، لقد اندلعت الحرب في لبنان ليس لأن حزب الله أسر جنديين إسرائيليين، ولا لأن إسرائيل دولة معتدية بل لسبب أكثر وضوحا هو غياب السلام بين لبنان وإسرائيل وهو غياب جبري نظرا لعجز الدولة اللبنانية عن إدارة معركة دبلوماسية مع إسرائيل تسترد به أرضها المحتلة وذلك لعجزها أصلا عن السيطرة علي كل الأرض اللبنانية.. لعل أشرف ما يجب أن تقوم به الدبلوماسية العربية الآن هو مساعدة الدولة في لبنان علي استرداد سلطتها ثم مساعدة الطرفين علي الوصول إلي سلام مشرف عبر تفاوض مباشر يحفظ أرواح الناس ويتيح لهم الحياة مثل بقية خلق الله، تري.. بعد كم ألف جثة وبعد كم ألف منزل مدمر، وبعد كم ألف قرية مسحت من علي الأرض، ستنعم هذه المنطقة بالسلام؟ إن إعلان وفاة كائن حي والسلام كائن حي يعني ضمنا القيام بإجراءات دفنه علي الفور،غير أنه لا أحد في المجتمعات المستقرة من حقه أن يدفن الموتي بغير تصريح من الجهات المختصة، وبذلك يكون من المستحيل دفن السلام المصري الإسرائيلي أو الأردني الإسرائيلي فكلاهما حي يرزق، وكلاهما فعال علي الأقل في إبعاد شبح الحرب، أعرف بالطبع أن هناك تشكيلات كثيرة من عشاق اللطم في الجنازات، والمغرمين بتحويل الدنيا إلي خراب منزعجين جدا من وجود هذا السلام الذي يسمح بانفتاح البلاد علي العالم فيحرمهم بذلك من الاستفراد بمصر والأردن، غير أنهم مع الوقت سيكتشفون أن السلام باق وهم زائلون.