في القرن الرابع عشر الميلادي وضع عبدالرحمن بن خلدون في 7 مجلدات «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر» وكان ممكنًا أن يُصنف به كمؤرخ لولا قيامه احتواء هذه المجلدات علي «مقدمة» تضمنت نظريته في العمران البشري (الحضارة) وعوامل نشأة الدول وازدهارها وأسباب تدهورها وسقوطها. وقد اعتبر ابن خلدون الممهد لعلم الاجتماع بفضل هذه المقدمة التي اشتهرت بأكثر من الكتاب ذاته. وفيما بعد وبجهود أوجست كونت وإميل دور كايم المنهجية اعتمد «الاجتماع» كواحد من أهم العلوم الإنسانية التي تدرس في الجامعات، فما لبث هذا العلم حتي انقسم إلي فروع شتي: علم الاجتماع السياسي، علم اجتماع الدين، علم اجتماع المعرفة.. الخ وهي فروع تخصصت في دراسة الظواهر المجتمعية مستقلة عن (ومتصلة ب) غيرها وصولاً للمزيد من فهم ذلك الكائن العجيب: الإنسان. ولما كانت الحماقة لازمة من لوازم البشر، فلقد طالبتُ في أكثر من مؤتمر ومقالة (إحداها نشرت علي هذه الصفحة من أعوام) بتأسيس فرع جديد لهذا العلم يخصص لدراسة تلك الظاهرة البشرية المذهلة.. ولم لا والناس بتاريخهم الطويل رهائنُ لحماقات لا تُصدق: حروب مستمرة، تقليب جيوب شعوب يقابلها ابتسامات استسلام خزيان، ونصب واستغفال تلاقيهما غفلة ملتذة، أنانية تعلم المحبين الضغينة، منازعات علي الزواج والطلاق والعيال تنتهي بخسران الكل. أما الأبرياء فاقرأ عليهم الفاتحة، وزر الحكماء في مصحات الأمراض العقلية. سكن أحمقان بغرفة واحدة، فابتاع أحدهما «الفسيخ» وأكله علي سرير صاحبه، فجاء الثاني بفضلات آدمية يأكلها علي فراش الأول كي يغيظه بالرائحة الكريهة كما هو اغتاظ! ألا تفعل دول وأحزاب وجماعات مثل هذا معظم الوقت؟ رأيت رجلاً غاضبًا يحطم بسيارته سيارة جاره لأنها تسد عليه طريق الخروج من حارتهما المشتركة، وعند السمكري تم خراب بيت الاثنين! أما الحمقاء العظمي أمريكا فدمرت أفغانستان والعراق «لتقضي علي الإرهاب»! والنتيجة: مضاعفة إرهابيي العالم، الذين أقسموا لينتقمن من مصر! بينما راحت إسرائيل تجهز لضرب إيران وهي تغمغم في سرها: بالروح بالدم نفديك يا إرهاب! خلاصة التاريخ: محلك سر يجوز أن تكون الفلسفة Philosophy (= حب الحكمة) قد نشأت لتجابه الحماقة والجهل، فمنذ أرسطو- مرورًا بديكارت وكانط وهيجل- وحتي جيمس جونز وجورج سيريل والفلاسفة عاكفون علي سبر أغوار العقل بقصد دعمه وتحسين أدائه ضدًا علي النوازع الوحشية، والغرائز الدنيئة بيد أنه ما من مفكر فيلسوف إلا وأقر بأن هذه النوازع وتلك الغرائز إنما هي جزء لا يتجزأ من طبيعة المخلوقات جميعًا بما فيها الإنسان، ومن ثم فلا مناص من الاعتراف بها بمثل ما يعترف بالزلازل والبراكين والعواصف والأعاصير.. تلك هي الطبيعة وما من سبيل لتجاهلها أو الازورار عنها. ولما كان الكائن البشري قد ركبت فيه- كسائر المخلوقات- غريزة حب البقاء بما تتضمنه من ضرورة إشباع جوعه للطعام والجنس والأمن.. الخ فإن أية محاولة من كائن آخر- حتي لو كان شقيقه- تستهدف حرمانه من تلك الاحتياجات لا غرو تعد- بالنسبة إليه- تعبيرًا لا غش فيه عن نوازع وحشية شريرة منبعها ذلك الشخص الآخر، ذلك الوحش الشرير الذي لابد أن يفني ويباد. تلك قسمة عادلة وغيرها ضيزي. في القديم نشب الصراع الدامي علي المراعي الخصبة بين الجماعات والقبائل والعشائر، وكان شعار «الويل للمغلوب» مقبولاً من الجميع (هكذا قانون الطبيعة) وبعد اكتشاف الزراعة وتأسيس الدول والإمبراطوريات صار المنتصرون سادة والمهزومون عبيدًا ولم يكن زمن الاحتجاج «الحضاري» قد أزف. ثم صار السادة اقطاعيين لوردات، وارتقي العبيد لمرتبة «الأقنان» (=سجناء الاقطاعية) حتي أقبلت طبقة البورجوازية تجارًا وأصحاب مصانع بعزم لا يلين علي انتزاع السلطة من أيدي الملوك وأعوانهم اللوردات، وما كان ذلك ليتحقق بغير استخدام الأقنان وعمال المصانع البؤساء كي يقوموا بإشعال «الثورة» علي النظام الملكي الاقطاعي، وما كان للأقنان والعمال أن يسايروا البورجوازية لولا إغراؤها لهم بشعارات الحرية والإخاء والمساواة بين البشر. وفي هذه الشعارات تجسدت حماقة البورجوازية اللاهثة نحو تأسيس النظام الرأسمالي، فلقد صنعت بنفسها نقيضها وسلحته بفكرها «العالمي» الشامل، حيث صدقها البؤساء المحرومون في البداية، حتي إذا انكشفت الكاشفة وتبين ل «عبيد العصر» أنهم ما زادوا عن استبدال أسياد بأسياد حتي انطلقوا ضدها بثوراتهم الخاصة عمالية أو فلاحية (روسيا- الصين- كوبا) أو حتي عرقية غوغائية منفلتة (سود لوس أنجلوس- متمردو دارفور.. الخ) وكلها انتهت بالإخفاق والتسليم بفوز الرأسمالية العالمية التي قسمت الكوكب الأرضي من جديد إلي نوعين من البشر: أغنياء سعداء مدللون يزعمون أنهم هكذا بفضل ذكائهم ووفرة نشاطهم، وفقراء بائسون باتوا يدركون أنهم أمسوا هكذا لأن الصنف الأول قام بسلب ثرواتهم الطبيعية، واستهلاك طاقاتهم البدنية والعصبية في سوق العمل الدولي، وأنه هو بالتحديد سبب كونهم مذلين مهانين داخل أوطانهم ذاتها. واليوم- وعلي ناصية التاريخ سفاك الدماء- يقف كل نوع من هذين النوعين المتناقضين متربصًا بالآخر منتظرًا الفرصة المناسبة للتخلص منه «قد شمرت عن ساقها فشدوا/ وجدت الحرب بكم فجدوا» قالها شاعر داعيًا للحرب فقدمت الفلسفة استقالتها، وارتمي العقل كفيفًا بجوار بومة منيرفا (رمز الحكمة) يتحسس جناحيها المقصوصين وهو يبكي عجزًا. الإرهاب مهزوم و.. المدللون أيضًا يعرف الصنف المدلل بموطنه في الغرب (أمريكا وأوروبا) حيث يتمتع معظم السكان فيه بدخول يتراوح متوسطها السنوي بين 25000 و50000 دولار ويقارب هؤلاء في المستوي المعيشي فئات النخب الحاكمة في العالم الثالث ومعهم عناصر الطبقة العليا، تليهم شرائح محدودة من قمم الطبقة الوسطي ممن راكموا ثرواتهم في العصر الاستعماري أو في عصر ما بعد الكولينيالية Post- Colonialism حيث يتولي وكلاء الغرب التجاريون مهمة تحطيم الصناعات المحلية وإعادة الاقتصاد الوطني لمواقع التبعية علي أطراف المركز الإمبريالي. أما الصنف البائس فمكانه أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث تعيش معظم الشعوب تحت خط الفقر الدولي، ويعاني الملايين من الجوع والأمراض الفتاكة، ويكفينا لكي نمقت الحياة أن نعلم بأن في عالمنا هذا «المتحضر»! يوجد 300 مليون طفل تحت سن الخامسة يجبرهم ذووهم الفقراء علي العمل في أحط المهن وأحقرها كجمع القمامة وخدمة المنازل والتسول والدعارة! دعنا نخمن كم من هؤلاء الأطفال يمكنه أن يفلت من إغواء منظمي الإرهاب وأمراء الحرب المحترفين. لنكن متفائلين ولنقترح للناخبين منهم نسبة 99% مما يعني تجنيد ثلاثة ملايين يافع خلال السنوات القليلة القادمة، ولنتصور أن 1% منهم فقط (= 30000 إرهابي) سوف ينجح في إعادة إنتاج أحداث 11 سبتمبر 2001 فكم قتيلاً سوف يسقط؟ وكم برجًا ومبني ومؤسسة سوف تدمر؟ فإذا أضفنا عددًا مكافئًا لأولئك مصدره سكان مدن الصفيح من حثالة البروليتاريا وفيالق العاطلين وجحافل اليائسين، علاوة علي المتهوسين الدينيين من شتي الملل والنحل ممن ينشدون هوية عالمية مصطنعة يواجهون بها نظامًا عولمته بلا هوية، إذن لو ثبت للمخيلة سيناريوهات مرعبة (يفوق جحيمها مآسي الحروب الماضية جميعًا) أكثرها احتمالاً أن تنصب ملايين المشانق للإرهابيين الفقراء في كل مكان بالتوازي مع تمدد الجلطات في مخ الحضارة الحالية وترسيخ حالة الشلل في أطرافها، مما يشي بسقوطها في الختام، لترتد مسيرة البشر إلي نقطة الصفر. وقتها حسب لن نجد معارضًا لمطلبنا المنحصر في تأسيس علم اجتماع الحماقة.