عاشت مصر فى القرن العاشر الميلادى الرابع الهجرى فترة اضطراب سياسى امتد لعشرات السنوات، وشهدت البلاد مخاضا سبق لحظة ميلاد جديد لمصر، فى ذلك العصر كانت الخلافة العباسية قد دب فيها الضعف. والدولة الكبرى تفككت إلى إمارات صغيرة تتبع الخليفة من الناحية الإسمية فقط، وفى مصر كان الطولونيون قد نجحوا فى القرن الثالث الهجرى فى الاستقلال بالبلاد فى إطار الخلافة العباسية نحو نصف قرن من الزمان، ورغم أن العباسيين استعادوا مصر مرة أخرى لكن الأمور لم تستقر لهم فيها فسرعان ما استقل بها محمد بن طغج الإخشيد وخلفاؤه من بعده. وفى نفس الوقت كان شمال أفريقيا قد خرج عن السيادة العباسية وقامت فيه دولة خلافة منافسة لخلافة العباسيين فى بغداد، هى دولة الخلافة الفاطمية، وسعى الفاطميون إلى التوسع شرقا فتكررت محاولاتهم للاستيلاء على مصر وضمها إلى دولتهم، فأصبحت مصر بذلك خط المواجهة الأول بين دولتى الخلافة العباسية والفاطمية. وانعكس هذا الوضع المتوتر على أوضاع مصر السياسية والاقتصادية فعاشت البلاد فى أواخر عصر الإخشيديين حالة من الفوضى والاضطراب، لكنها الفوضى التى تبشر بميلاد جديد. وبالفعل نجح جوهر الصقلى قائد جيوش الخليفة الفاطمى المعزلدين الله فى فتح مصر سنة 358 هجرية 969 ميلادية، وشرع فى بناء مدينة القاهرة التى نقل لها الفاطميون مقر حكمهم، وكان تحول مصر إلى جزء من الدولة الفاطمية، وانتقال مقر خلافة الفاطميين إليها نقطة تحول مهمة فى تاريخ مصر الإسلامية، فقد بدأ عصر جديد من عصور استقلال مصر، وعادت مركزا رئيسيا من مراكز الإشعاع الحضارى فى عالم العصور الوسطى. فى هذا المناخ التاريخى المضطرب ولد ونشأ وعاش رجلنا الذى نتحدث عنه اليوم؛ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثى المصرى. فقد ولد ابن زولاق بالفسطاط فى شعبان سنة 306 هجرية المقابلة لسنة 919 ميلادية وتوفى فى الخامس والعشرين من شهر ذى القعدة سنة 387 هجرية المقابلة لسنة 997 ميلادية. وقد نشأ ابن زولاق فى بيت علم حيث كان جده الحسن بن على من مشاهير علماء مصر فى القرن الثالث الهجرى كما كان من أعمامه محمد بن زولاق أحد اللغويين البارزين فى عصره، وقد درس الحسن بن زولاق الفقه والتاريخ على يد أعلام القرن الرابع الهجرى، فكان تلميذا لأبى بكر زين الحداد من أعظم أئمة العصر وفقهائه، ودرس التاريخ على أبى عمر الكندى صاحب كتابى ولاة مصر وقضاة مصر. وقد تخصص ابن زولاق فى التاريخ، واهتم على وجه الخصوص بتاريخ مصر دون غيرها فألف فيه العديد من الكتب والرسائل، وكانت الفترة التى عاشها كغيرها من عصور الانتقال ملهمة للمؤرخ الواعى الممتلك للرؤية التاريخية. لقد عاش ابن زولاق لحظات صعود دولة الإخشيديين وازدهارها، كما شهد تدهورها وانهيارها، وعاصر دخول الفاطميين لمصر والسنوات الأولى لدولتهم فيها، وقد أرخ ابن زولاق لكل هذه الأحداث المهمة التى عاصرها وعايشها بنفسه، وكان قريب الصلة بمن صنعوها، فقدم صورة دقيقة عنها. اتصل ابن زولاق ببلاط الإخشيديين وكتب تاريخ الإخشيد بطلب من ابنه أبى الحسن على بن الإخشيد، واتصل بجوهر قائد المعز، وعن طريقة تعرف على أول خلفاء الفاطميين بمصر، ثم وضع كتابه سيرة المعز من خلال معرفة قريبة بالرجل، وتذكر المصادر التاريخية التى ترجمت لابن زولاق ثلاثة مؤلفات أخرى للرجل تتناول كلها مصر التى شغلت اهتمامه بالكامل، وهذه المؤلفات هى: كتاب تاريخ مصر وكتاب فضائل مصر وكتاب خطط مصر. وإذا كان عبدالرحمن بن عبدالحكم أول مؤرخى مصر الإسلامية قد سبق ابن زولاق فى الكتابة عن تاريخ مصر وفتح العرب لها، كما كتب فى فضائل مصر بعض معاصرى ابن زولاق كعمر بن الكندى، فإن مؤرخنا كان سباقا فى التأليف فى مجال الخطط. وإذا كان المؤرخون السابقون على ابن زولاق من أمثال ابن عبدالحكم والكندى، قد أشاروا إلى خطط الفسطاط وتوزيع مناطقها بين القبائل فى مؤلفاتهم العامة عن مصر وتاريخها، فإن ابن زولاق على ما يبدو قد تناول الموضوع فى كتاب مستقل يحمل عنوان الخطط (وهى تقسيمات المدن) بلغة ذلك العصر. ويبدو أن ابن زولاق قد تناول خطط الفسطاط بنوع من الإفاضة والتوسع، كما امتد به البحث والتقصى إلى خطط عواصم مصر الأخرى كالعسكر والقطائع، وربما يكون قد تناول فى خططه إنشاء القاهرة التى شهد قيامها قبل وفاته بنحو ثلاثين عاما كما يقول المؤرخ الراحل محمد عبدالله عنان. ورغم تنوع مؤلفات الحسن بن زولاق وغزارة إنتاجه الفكرى إلا أن الجزء الأعظم من هذا الإنتاج لم يصلنا فى صورته الأصلية، لقد فقدت جل مؤلفات ابن زولاق التاريخية، وما وصلنا منها جاء مبتورا ناقصا أو مضمنا فى مؤلفات غيره من المؤرخين الذين عاشوا بعده ونقلوا عنه. ومن حسن الحظ أن بعض هؤلاء المؤرخين قد ضمنوا فى كتبهم مؤلفات كاملة أو شبه كاملة لابن زولاق، مثلما فعل أبوسعيد الأندلسى فى القرن السابع الهجرى، عندما نقل سيرة الإخشيد لابن زولاق كاملة فى القسم الذى ألفه من كتاب «المُغرب فى حلى المَغرب». كذلك لخص المقريزى فصلا من كتاب ألفه ابن زولاق عن أخبار الماردانيين، وهم أسرة توارثت منصب الوزارة فى زمن الإخشيديين، كما وصلتنا عن طريق المقريزى أيضا فقرات متعددة من كتاب ابن زولاق عن المعز لدين الله الفاطمى وذلك من خلال السفر العظيم الذى ألفه المقريزى وعنونه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الخلفاء». وقد وصلتنا من بين مؤلفات ابن زولاق التاريخية أجزاء من مخطوطته عن فضائل مصر، لكنها أجزاء غير مكتملة ولا تشكل نصا أصليا للكتاب. أما الكتاب الوحيد الذى وصلنا كاملا من أعمال ابن زولاق المصرى فرسالة صغيرة تدخل فى باب السير والتراجم بعنوان: «كتاب أخبار سيبويه المصرى» ويترجم فيه لأحد المعاصرين له من ظرفاء ذلك العصر. وقد كان المفكر والمؤرخ الراحل محمد عبدالله عنان هو أول من التفت إلى أهمية هذا الكتاب عندما اكتشف نسخته المخطوطة التى كتبها المؤلف بخطه ونشر دراسة عن هذه النسخة محققا نسبتها إلى المؤلف فى الملحق الأدبى لجريدة السياسة فى سنة 1932، ثم دفع بصورة من تلك النسخة إلى اثنين الباحثين قاما بنشر الكتاب هما محمد إبراهيم سعد الذى كان من خريجى دار العلوم ويعمل بالتدريس بالمدارس الابتدائية وحسين الديب الضابط بمدرسة البوليس والإدارة، وقد قام عنان بالتقديم لهذه الطبعة التى صدرت فى عام 1933. وفى مقدمة الرسالة يعرفنا الحسن بن زولاق بمعاصره سيبويه وبسبب تأليفه هذه الرسالة فيقول: «كان عندنا بمصر رجل يعرف بسيبويه، لو كان بالعراق لجمع كلامه ونقلت ألفاظه، ولو عرف المصريون قدره لجمعوا عنه أكثر مما حفظوه، وسئلت أن أجمع من كلامه ما أقدر عليه مما حفظته عنه، وما بلغنى عنه، فعملت كتابى هذا بصفته وما كان يُحسنه حسب ما قدرت عليه. وهو أبوبكر محمد بن موسى بن عبدالعزيز الكندى الصيرفى، المعروف بسيبويه، ولد بمصر سنة أربع وثمانين ومائتين، وتوفى فى صفر سنة ثمان وخمسين وثلثمائة وسِنّهُ أربع وسبعون سنة، قبل دخول القائد جوهر إلى مصر بستة أشهر، وتأسف عليه لما ذكرت له أخباره، وقال: لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز صلوات الله عليه فى جملة الهدية. وكان أبوه شيخا صرفيا يكنى أبا عمران أعرفه، لابنه سيبويه معه قصص أنا أذكرها فى كتابى هذا...» لكن إذا كانت معظم مؤلفات ابن زولاق قد فقدت فما هى قيمته بين مؤرخى مصر الإسلامية؟ رغم ضياع الغالبية العظمى من مؤلفات ابن زولاق، فإن النصوص التى وصلتنا أجزاء متفرقة منها هنا وهناك فى كتابات المؤرخين الذين جاءوا من بعده تكشف عن حس تاريخى يقظ، وعن مؤرخ مدقق لماح، استفاد من قربه من مواقع اتخاذ القرار فى فترة مليئة بالأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية فرصد هذه التحولات بذكاء وفطنة. وحتى رسالته الصغيرة التى لا يعدو عدد صفحاتها الأربعين والتى تحمل عنوان أخبار سيبويه وهى المؤلف الوحيد الذى وصلنا كاملا تقدمه لنا كمؤرخ وأديب بارع فى نفس الوقت، والرسالة على صغرها ذات قيمة بالغة فهى أقدم نص أدبى عربى فى مصر يصل إلينا مكتملا، كما أن المؤرخ يستطيع أن يستخلص الكثير من ثناياها عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية بل أيضا عن الأوضاع السياسية. أننا أمام مؤرخ فذ بخل علينا الزمن بالاحتفاظ بمؤلفاته.