◄ دواء تُلقيه في الحوض قد يعود إليك في طبق السمك في عصر تتسارع فيه التغيرات البيئية والصحية على نحو غير مسبوق، لم يعد من المقبول أن ننظر إلى صحة الإنسان، أو الحيوان، أو البيئة كجزرٍ معزولة. بل بات من الضرورى أن نعيد ترتيب أولوياتنا وفق رؤية شاملة، تدمج بين هذه العناصر الثلاثة. هذه الرؤية هى ما نُطلق عليه مفهوم «الصحة الواحدة»، والذى لم يعد ترفا علميا أو مصطلحا أكاديميا، بل أصبح ضرورة وجودية، واستراتيجية بقاء للمجتمعات الحديثة. يكفينا أن نرجع بالذاكرة إلى جائحة كوفيد-19، لندرك كيف أدى فيروس منشؤه الحيوان إلى شلل عالمى فى الاقتصاد والتعليم والسلوك البشرى، فضلا عن الضغوط الساحقة على أنظمة الرعاية الصحية. قبلها، كانت هناك أوبئة مثل إنفلونزا الطيور والسارس، كلها بدأت من تماس مباشر بين البشر والحيوانات، فى ظل غياب ضوابط بيئية وصحية واضحة. الأمر لا يتوقف عند الأمراض المعدية، فمقاومة المضادات الحيوية، وهى أحد أخطر التحديات الطبية فى القرن الحالى، ترتبط بشكل وثيق بالاستخدام غير المنضبط للمضادات فى تربية الحيوانات، وسوء التخلص من الأدوية فى البيوت والمنشآت الصحية. إننا نعيش فى نظام بيئى مترابط، وأى خلل فى أحد أضلاعه سرعان ما ينعكس على بقية العناصر. ولهذا، فالصحة الواحدة ليست فقط مقاربة علمية، بل هى فلسفة إدارية، ورؤية تكاملية يجب أن تؤطر جميع السياسات العامة فى الدولة، من الزراعة إلى الإسكان، ومن التعليم إلى البيئة. ◄ من الحكومة إلى المواطن ينبغى ألا نُحمل جهة واحدة عبء تطبيق هذا المفهوم. بل المطلوب هو تنسيق متعدد المستويات، فعلى المستوى الدولى، هناك منظمات كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان، والتى توفر أطرا علمية وتوصيات للعمل المشترك عبر الدول. أما على الصعيد الوطنى، فأقترح إنشاء لجنة عليا للصحة الواحدة فى مصر تضم ممثلين عن وزارات الصحة، البيئة، الزراعة، التعليم العالى، البحث العلمى، والمجتمع المدنى. مهمتها صياغة خريطة صحية وبيئية موحدة، والتدخل بشكل استباقى فى القضايا ذات الطابع المركب، كالسيطرة على الأمراض المشتركة، ومراقبة استخدام المبيدات، وضبط أنظمة إنتاج الغذاء. لكن يبقى الأساس الحقيقى فى المواطن نفسه. فالصحة الواحدة تبدأ من سلوك فردى بسيط: كيف تتعامل مع مياه المطبخ؟ كيف تُخزن الأدوية؟ كيف تتخلص من النفايات؟ هذه التفاصيل الصغيرة تشكل فى مجموعها الخط الدفاعى الأول ضد الأمراض والتلوث. ◄ مياه الحنفية كمثال لنأخذ المياه كمثال، فما يصل إلينا من مياه عبر الحنفيات يمر بسلسلة طويلة من المعالجة والتنقية، لكن حين يُلقى البعض بالأدوية منتهية الصلاحية أو المواد الكيميائية فى الأحواض والمراحيض، فإن هذه المواد قد تتسرب إلى شبكة الصرف، ومنها إلى محطات المعالجة أو، فى أسوأ السيناريوهات، إلى نهر النيل، لتعود إليك هذه الأدوية والمواد الضارة فى طبق سمك مصدره مياه النيل، أو في نبات تم ريه بتلك المياه. تظهر هنا أهمية الصحة الواحدة فى التوجيه نحو سلوك بيئى مسئول. نحتاج إلى إنشاء نقاط تجميع آمنة فى الصيدليات والمراكز الصحية للأدوية المنتهية أو الفائضة، مع قوانين تنظم التخلص منها بطريقة تحافظ على سلامة المياه، وبالتالى سلامة الإنسان والحيوان. والنفايات الصلبة مثال آخر، فإن لم تُفصل وتُدار بشكل سليم، تتحول إلى بؤر لتكاثر الذباب والناموس، وتصبح مرتعا للأمراض مثل حمى الضنك والليشمانيا والكوليرا. لكن فى المقابل، إذا تم تبنى منظومة متكاملة لإعادة التدوير، فسنحصل على سلسلة من الفوائد هى: تقليل الانبعاثات الغازية الناتجة عن التحلل العضوى للنفايات، الحد من تلوث التربة والمياه الجوفية، خلق فرص عمل خضراء فى مجالات الجمع والفرز والمعالجة، والأهم، تعزيز ثقافة المسئولية الفردية والوعى البيئى. ويمكن للدولة أن تطلق برنامجا تحفيزيا ذكيا، يربط بين فصل القمامة فى البيوت وحوافز مثل تخفيض فواتير الكهرباء أو منح نقاط شراء رقمية. ولا يمكن بناء مجتمع صحى بيئيا دون إصلاح جذرى فى منظومة التعليم. يجب أن يتعلم الأطفال، منذ المراحل الأولى، كيف تتداخل صحتهم مع سلوكهم الغذائى والبيئى، وأن يفهموا أن رمى كيس بلاستيك فى الشارع قد يعود إليهم على شكل بعوضة ناقلة للعدوى. ينبغى أيضا دعم إنشاء برامج دراسات عليا مشتركة بين كليات الطب والبيطرة والزراعة والعلوم البيئية، لتخريج كوادر قادرة على فهم التحديات المركبة التى لا تنتمى لتخصص واحد فقط. ◄ رسالتي للمسئول.. والمواطن وأخيرا، فإن رسالتى إلى صانع القرار: لا تفصلوا بين السياسة العامة والصحة العامة، أى قرار اقتصادى أو عمرانى أو زراعى يجب أن يمر عبر مرشح «الصحة الواحدة». الكلفة التى ندفعها اليوم فى تطوير السياسات البيئية، أقل بكثير مما سندفعه لاحقا فى مواجهة الكوارث. وإلى المواطن: لا تقل إنك وحدك لا تغير شيئا، فكل سلوك بسيط فى منزلك، سواء فى استخدامك للمياه، أو طريقة تعاملك مع النفايات، أو حتى تربيتك لحيوان أليف، له أثر تراكمى على صحة المجتمع كله. فالصحة الواحدة ليست علما جديدا بقدر ما هى عودة للفطرة السليمة: أن نحترم الطبيعة، ونحترم الحيوان، ونفكر فى صحة غيرنا كما نفكر فى أنفسنا. ■ د. محمد غراب الباحث في وكالة حماية البيئة الأمريكية