لعل أهم ما يميز تمثيليات رمضان هذا العام هو التعاسة، كل الممثلين تعساء ويزدادون تعاسة من مشهد لمشهد ومن حلقة لأخري. لست أتكلم عن الشخصيات التي يقدمونها بل عنهم هم أنفسهم كممثلين. من الطبيعي أن يقدم الممثل شخصية تعسة لما تعانيه من مشاكل أو لما تمر به من أحداث تحتم تعاستها ولكن ذلك يحدث بغير أن يكون هو نفسه تعسا، أما في معظم التمثيليات المعروضة فالممثلون يشيعون قدرا من التعاسة لا يمكن للمتفرج الإفلات من آثارها. هناك دائما قدر من الزهو الإنساني يشع من الممثل . وهذا بالتحديد ما يجعل منه ممثلا، إنه زهو التمثيل أو كما سميته يوما ما نبل التمثيل. وهو نوع من الزهو عجزنا حتي الآن عن معرفة مصدره داخل جسم الممثل وروحه. إنه ذلك النوع من السحر الذي يستولي علينا كمتفرجين عند مشاهدة ممثل عظيم. بغير هذا السحر لا يصبح التمثيل تمثيلا بل نوعا من الأداء العاجز عن جذب الانتباه، هذا هو بالضبط ما حدث للممثلين في معظم الأعمال المقدمة. غاب عنهم السحر واختفي منهم الزهو وضاع منهم نبل التمثيل وذلك لسبب نخجل جميعا من ذكره وهو أن هذه الأعمال ليست أعمالا درامية. هي أعمال غير قابلة للتمثيل وبالتالي فالممثل لا يجد فيها نفسه، سيجد ( ما يقوله) غير أنه لن يجد ( ما يمثله) وهذا راجع للخلط الشائع بين الحوار وبين الكلام. الدراما تعرف الحوار، أما الحياة اليومية فتعرف الكلام، كل الناس تعرف الكلام وتمارسه في أي لحظة وفي أي مكان، أما الحوار فالدراما هي ميدانه، والحوار يصنعه كتاب الدراما، إنه الفعل وقد تحول إلي صوتيات، كاتب الدراما لا يكتب الحوار بل ينحته، بالطبع هو يستخدم الكلمات غير أنه يبتعد عن الكلام. كاتب الدراما هو أوسطي التمثيل، هو كاتب النوتة الموسيقية للتمثيل، ولذلك فالأعمال الدرامية العظيمة تعيش ليس لعظمة أفكارها بل لرحابة مساحة التمثيل التي تتيحها لفن التمثيل. الحوار فقط هو ما يدفع محركات التمثيل للعمل عند الممثل أما الكلام غير الدرامي فهو يشعره بالتعاسة لأنه يقضي علي زهوه. سيقوم بعمله علي أكمل وجه أمام الكاميرا، غير أنك ستشعر طوال الوقت بحاجز زجاجي يفصل بينك وبينه. أريدك أن تتصور أسدا نصبوا له فخا واصطادوه، ولم يضعوه في قفص أو يدربوه في سيرك بل كلفوه بجر عربة كارو، هل تتخيل قدر التعاسة التي يشعر بها. ربما تسألني في استنكار: وما الذي يرغم أسدا علي الرضوخ والموافقة علي أن يجر عربة كارو؟ الفلوس يا بني.. الفلوس الكتير.. الكتير قوي.. الملايين.. الأسد سيحصل علي ملايين الجنيهات أو الدولارات في مقابل أن يلعب دور الحمار.. وهناك عنصر آخر ربما كان هو الأكثر أهمية وهو قلة وأحيانا انعدام الأعمال التي يكتبها كتاب الدراما المحترفون، وربما هنا يظهر عامل جديد وهو عدم الاحتياج إليه أصلا لاعتزازه بعمله، هو لن يتطوع بإفساد عمله بالرضوخ لطلبات النجوم والنجمات، وربما يكون السبب وراء كل ذلك هو الانهيار الفكري العام الذي يصيب العاملين ويحرمهم من الرغبة في الدقة والاتقان ويصيبهم بذلك الداء اللعين وهو احتراف تقديم كل ما هو رديء. في برامج كثيرة نستمع إلي ممثلة تتكلم عن جلسات السيناريو، مالها هي وجلسات السيناريو، هذه الجلسات قاصرة فقط علي السيناريست والمخرج، كلاهما يري العمل الفني ككل، ويناقشانه ككل من أجل الحصول علي عمل أكثر اكتمالا، وبعد الوصول إلي الشكل الذي يرضي عنه الجانبان يبدأ المخرج تنفيذه ، توجيهاته وتوجهاته ورؤيته وتعليماته هي ما يضمن في النهاية خروج العمل إلي النور كما تصوره، من هنا جاءت الجملة الشهيرة أو التي كانت شهيرة يوما ما وهي جملة (المخرج عاوز كده) أما عندما نعطي للعاملين الحق في التدخل في جلسات السيناريو فلن نحصل في النهاية إلا علي عمل مهلهل فقد تماسكه، ولكن بما أن الفلوس الكتير هي أكثر العناصر درامية لذلك يقاس النجاح بالقدرة علي الوصول إليها حتي لو تطلب الأمر إرضاء كل الممثلين والممثلات بإعادة كتابة أدوارهم وإعطائهم مساحة كبري يبكون فيها وينوحون ويلطمون ويتعذبون. أرجو ألا تتصور للحظة واحدة أنني لا أحب الفلوس أو أن بيني وبينها ثأر قديم أو خصومة، أنا والله أحبها مثلك تماما وسأرحب بها أعظم ترحيب عندما تأتي بقي لها كتير ما جاتش أنا قلقان عليها قوي يا تري حصل لها إيه ؟ غير أنني علي وعي بأن الزهو الفني عندما يتعارض مع الفلوس فلابد أن يتخلي الفنان عن الفلوس الكتير وأن يقنع بالقليل، أو علي الأقل أن يقاوم من أجل أن يحصل عليها وأن يحتفظ بزهوه الفني في الوقت نفسه، علي الأسود أن تحارب ولا تسمح لنفسها بجر عربة كارو. أما ما يسمونه الكوميديا في مصر هذه الأيام، فلابد أن نعترف أننا نمر بكارثة حقيقية، إنها أعمال لا تستطيع أن تصفها بالعبط أو البلاهة أو السخافة، هي أفظع من ذلك بكثير.