في الحلقة السابقة حدثنا هرمان ايلتز السفير الأمريكي في القاهرة بعد حرب أكتوبر عن الجولات المكوكية التي قام بها هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي في نفس الوقت بين مصر وإسرائيل و«الألاعيب» التي مارسها بصفة خاصة وتأييده في كل مناسبة وجهة النظر الإسرائيلية علي طول الخط. ومازلت أصفه أنه كان - ولا يزال المناصر الأول لإسرائيل في الولاياتالمتحدة وحاول بابتساماته الصفراء التأثير علي القادة العرب ونجح في بعض الأحيان. أي أنه بمثابة الألعبان الأمريكي الإسرائيلي، أسف الكلمة يجب أن تكون الألعبان الإسرائيلي الأمريكي في واشنطن. عاني ايلتز من ألاعيب كيسنجر وخضوعه لإسرائيل مما أحرجه كثيراً أمام السلطات المصرية، إذ إن الولاياتالمتحدة تراجعت دون أي اعتذار أو حتي تبرير عن تعهدات عديدة للقاهرة، قيم ايلتز فترة عمله مع كيسنجر معه فيقول إن كان يكن إعجاباً شديداً به، وقابله مرات عديدة إلا أنه كاد يقدم استقالته مرتين بسبب طريقة تعامل كيسنجر، الأولي بداية فترة حضور كيسنجر إلي المنطقة بعد الحرب والثانية أثناء التفاوض علي اتفاقية سيناء 2 لأنه أي ايلتز - لم تعجبه تصرفات كيسنجر، ويقول في نفس الوقت أنه يعتقد أنه كان واحداً من السفراء الأمريكيين القلائل الذين تصدوا له بقوة، ويبدو أن كيسنجر احترم ذلك لأنه كان من ضمن هؤلاء الذين لم ينتقدمهم علي الإطلاق. ذكرت في حلقة سابقة ما شاهدته عندما عملت في مكتب وزير الخارجية إسماعيل فهمي وبدايات زيارات كيسنجر إلي القاهرة، كيف كان يعامل الدبلوماسيين في الوفد الأمريكي، فقد كان يشخط فيهم وينهرهم علانية وتوبيخهم بالرغم من أنهم كانوا يعملون ليل نهار. لم أراه يذكر مطلقاً كلمة «متشكر» وهو بالمناسبة لا يزال حتي الآن علي نفس هذه العنجهية والغرور بالرغم من أنه لا يتولي أي منصب رسمي. يقول السفير إيلتز أنه لم تكن لديه أي ذرة رحمة حتي في أحاديثه مع سفراء أمريكا بما فيهم كبار الدبلوماسيين، وكانت طريقة تعامله معهم في العلن مشينة، ولكن ذلك لم يحدث أبداً مع إيلتز، ويبدو كما قال فإن الاستقالتين اللتين قدمهما إليه كان لهما بعض التأثير عليه. ومع ذلك يقول ايلتز إن العمل مع كيسنجر كان مسلياً من الناحية الفكرية، فقد كان سريع البديهة ويستطيع استحضار اقتراحات جديدة بسرعة وكان ذهنه مرتباً وهو أمر مهم جداً. ينظر إلي مستقبل الأمور وكيف يمكن الوصول إلي الهدف سواء «وصلنا إلي الهدف أم لا» وفي نفس الوقت فإنه قبل الكثير من تعليقات واقتراحات السفير إيلتز، الذي يقول بطريقة فلسفية أنه والكثير من زملائه خدموا في السلك الدبلوماسي الأمريكي لفترة طويلة جعلتهم يصلون إلي استنتاج أنك لا تستطيع كسب الجميع إلي جانبك، ولكنه شعر أنه يمكنه أن يكون له بعض التأثير علي كيسنجر. وللعلم فإن الاثنين من أصل ألماني، إيلتز مسيحي وكيسنجر يهودي. يشير ايلتز أنه بالرغم من أن السفارة الأمريكيةبالقاهرة في البداية كانت صغيرة جداً بها عشرة دبلوماسيين فقط زادوا أربعة بعد ذلك إلا أنها استطاعت تحقيق الكثير. وهو من جانبه كان حريصاً علي أن تستمر السفارة صغيرة الحجم ومن حسن حظه أن الذين عملوا معه كانوا دبلوماسيين ممتازين، وأذكر من جانبي هنا - هذا تعليق مني - ابريل جلاسبي الدبلوماسية النشيطة التي كانت تعرف كل شيء عن مصر تقريباً وكنت أتعجب من سعة معلوماتها وطريقة نفاذها في المجتمع المصري وليس فقط في الوسط الدبلوماسي أصبحت فيما بعد سفيرة للولايات المتحدة في العراق ولها قصة شهيرة مع صدام حسين إذ يقال إنه فهم منها أن واشنطن لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول وفسر ذلك بأنها لن تمانع غزوه للكويت. قليل من السفراء ممن يقدمون ويحترمون الذين يعملون معهم ويعلنون عن إعجابهم بهم علانية ، وكان إيلتز من ضمن هؤلاء، وقد أغدق عليهم المديح لما قاموا به في أسوان مثلاً أثناء التفاوض علي اتفاقية سيناء الأولي (بين مصر وإسرائيل) ويقول إنه مع أن كيسنجر قد يطالبك بأن تعمل ليل نهار ويجعلك تقترب من حافة الجنون، فإنه كان مؤيداً لعمل السفارة وأعضائها، ولذلك عمل إيلتز علي أن يتولي هؤلاء الدبلوماسيين فيما بعد مناصب مهمة وحصل علي موافقة كيسنجر نفسه علي ذلك. يصف إيلتز طريقة مباحثات كيسنجر مع الأطراف بأنه كان يحرص علي أن يخبر كل طرف بنصف الحقيقة ويبقي النصف الآخر لنفسه، نافياً وصف ذلك بأنه مجرد إنصاف حقائق، ولكن في الوقت المناسب فإنه كان يعمل علي أن يقدم تدريجياً مزيداً من المعلومات الإضافية بطريقة تجعل كل طرف يبتلع الوضع المر كما هو بعد أن يكون قد حصل منه علي الموافقة علي «نصف» الحقيقة مسبقاً. واستمر هذا الوضع لفترة. ويقول مع أن هذه الطريقة في بعض الأحيان كانت تتعارض مع الشعور بالمصداقية إلا أنه يقر أن كيسنجر كان مفاوضاً فعالاً. أهم انتقاد يوجهه إيلتز إلي كيسنجر أن الأخير كان لديه شعور طاغ بالبارانويا أي القلق الشديد، فقد كان ينظر إلي أعضاء الخارجية الأمريكية تقريباً بشعور من الريبة والشك واعتبرهم غير مؤهلين للحصول علي ثقته ولذلك عمد إلي استبعادهم ليس فقط فيما يتعلق بشئون الشرق الأوسط ولكن غير ذلك من الأمور. ويشيد ايلتز بالخارجية الأمريكية ودبلوماسييها الذين يعتبرهم من أفضل الدبلوماسيين في العالم. ويقول إن كيسنجر كان يحرص أن يحيط نفسه ويعمل في دائرة صغيرة من المعاونين، وإذا كنت أحد أعضاء هذه المجموعة فإن بإمكانك الحصول علي كل المعلومات وإذا لم تكن فإنك غريب عن الخارجية. وكان ذلك خطأ لأنه عندما عين وزيراً للخارجية كان الدبلوماسيون سعداء لأنهم اعتقدوا أنهم حصلوا أخيراً علي قائد ممتاز للدبلوماسية الأمريكية، ولكنهم وجدوا أنفسهم فيما بعد مستبعدين وهو ما أعتبره إيلتز خطأ كبيراً لكن كيسنجر كان يري أن أغلبهم لا يكنون الولاء له. هذه هي أمثلة لطريقة عمل الخارجية الأمريكية، وكما يقال لكل شيخ طريقة، ولكن من أحاديثي مع الدبلوماسيين الأمريكيين القدامي والمحدثين فإنهم شعروا بالاحترام لشخصيات وزراء خارجية مثل ساويرس فانس، وكولين باول، ولم يستريحوا مثلاً لشخصية كونداليزا رايس. في الحلقة القادمة يحدثنا إيلتز كيف عمل من القاهرة أثناء فترة الرئيس كارتر الذي خلف الرئيس فورد.