في الحلقة الماضية تذكر هرمان إيلتز الذي عين سفيراً في القاهرة بعد حرب أكتوبر 1973، ما حدث في مؤتمر جنيف الذي انعقد لمدة يوم واحد في ديسمبر 1973 بمشاركة مصر والأردن وإسرائيل والأممالمتحدة برئاسة مشتركة للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وفشلت كل الجهود لإقناع سوريا بالمشاركة، كان من المتفق عليه استئناف المؤتمر في يناير 1974 ولكن إيلتز يقول إن الولاياتالمتحدة بناء علي رغبة إسرائيل وإلي حد ما مصر، أقنعت الدولتين بالتخلي عن فكرة المؤتمر من الأساس وأن تعتمدا بدلاً من ذلك علي جهود أمريكية خالصة للتوصل إلي إتفاق. ولذلك في يناير 1974 لم يعقد المؤتمر وبدلاً من ذلك حضر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي إلي المنطقة حيث قام بما يسمي بجولة مكوكية لمدة عشرة أيام أسفرت عما أطلق عليه اتفاقية سيناء واحد التي كانت تتعلق بفصل محدود للقوات المصرية والإسرائيلية خاصة انسحاب القوات الإسرائيلية من حافة قناة السويس. يذكر إيلتز أن القوات الإسرائيلية كانت بالطبع بعيدة عن القناة نتيجة حرب أكتوبر حيث دمرت القوات المصرية خط بارليف الذي اعتقدت إسرائيل أنه يمثل خطاً منيعاً ضد أي هجوم مصري. تم في الاتفاق إنشاء قوة طوارئ دولية تفصل بين الجيشين. يقول إيلتز إنه يتذكر عند توقيع الاتفاق أن كل مستشاري الرئيس السادات كانوا ضد الاتفاق لأنهم شعروا أن ما كسبته مصر منه لا يتناسب مع التضحيات التي قامت بها والنجاحات التي حققتها في الحرب. كما أن السادات نفسه شعر بخيبة أمل للنتائج المتواضعة التي حققها ولكن - كما يقول إيلتز - فإن موقفه كان يقوم علي الاعتقاد أنه مهما كانت النتائج قليلة إلا أن ذلك سيجعل الولاياتالمتحدة منغمسة في المشكلة وستتمكن من تحقيق المزيد له بعد ذلك، واستغرق الأمر ستة أسابيع لتنفيذ الانسحاب الإسرائيلي ولوضع قوات الأممالمتحدة وفي اليوم الأخير من التنفيذ أي في 28 فبراير 1974 تم الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الولاياتالمتحدة ومصر، حضر وزير الخارجية إسماعيل فهمي إلي مبني السفارة الأمريكية وحضر الاحتفال برفع العلم الأمريكي عليه. يقول إيلتز إن الهدف الثاني لعمله في القاهرة ومن جانب واشنطن أيضاً هو العمل علي إقناع السعودية ودول الخليج المنتجة للنفط بإنهاء الحظر الذي فرضته في بداية حرب أكتوبر 1973 علي تصدير البترول إلي الولاياتالمتحدة، كان كيسنجر يشير إلي إتفاق سيناء واحد كدليل علي مدي انغماس الولاياتالمتحدة ومن أجل ذلك علي هذه الدول أن تلغي الحظر. وخلال أيام 18 و 19 و20 و 21 يناير 1974 كانت واشنطن واثقة من موافقة الملك فيصل علي إلغاء الحظر إذا كان هناك اتفاق مشابه في الجولان مماثل لاتفاق سيناء واحد. هذا دفع كيسنجر للقيام بعمل عادة يفضل عدم القيام به وهو التوسط بين السوريين والإسرائيليين. ولكن بحلول أبريل 1974 لم تستطع واشنطن إقناع السعوديين وغيرهم حتي بمساعدة الرئيس السادات برفع الحظر علي تصدير النفط إلي الولاياتالمتحدة، مما جعل كيسنجر يركز جهوده علي الجولان. كان هذا الموضوع أكثر صعوبة من سيناء واحد التي استغرق التوصل إليها عشرة أيام فقط بما فيها يوم زيارة لمشاهدة معالم الأقصر السياحية. في حالة الجولان والأسد استغرق الأمر 31 يوماً وجهوداً جبارة من الجانب المصري، لإقناع السوريين حتي تم التوصل إلي ما يسمي باسم جولان واحد في بداية مايو 1974 . أتذكر الآن هذه الأيام عندما عملت في مكتب الوزير إسماعيل فهمي الذي كان يؤمن بتزامن المسارين المصري والسوري وعمل بالفعل جاهداً ليس للضغط علي سوريا وإنما للضغط علي واشنطن لكي تستخدم نفوذها علي إسرائيل لعدم عرقلة الاتفاق. عندما كنا نتصور أن الاتفاق قارب الانتهاء تظهر عقبة من جانب إسرائيل وهكذا. بعد ذلك ظهرت مسألة: ماذا تفعل الأردن؟ حيث كان كيسنجر يأمل في إبرام اتفاق فصل قوات أيضاً بين إسرائيل والأردن في الضفة الغربية. ولكن ذلك لم يكن يتيح له الوقت اللازم للتوصل إلي اتمام اتفاق فصل قوات ثان لمصر. الرئيس السادات - كما يقول إيلتز - كان العرب ينتقدونه بسبب النتائج المتواضعة التي تحققت بين إتفاق سيناء واحد. ولذلك شعر أن هناك ضرورة ملحة لعقد اتفاق آخر سيناء اثنين كان الناس يقولون إن الولاياتالمتحدة تسعي إلي تجميد الوضع بعد الانسحابات الإسرائيلية المتواضعة. وذلك في رأيهم يتوجب علي السادات أن يضغط علي الولاياتالمتحدة لكي تنجز شيئآً أفضل. وكان السادات يقول للأمريكان: لا، علي أن أقوم أيضاً بشيء من جانبي، ليس لدي أي مانع بالنسبة لعقد اتفاق خاص بالأردن ولكن يجب أن يتزامن كذلك مع اتفاق خاص بمصر لذلك. هذا الأمر شكل معضلة بالنسبة لكيسنجر. من ناحية الأردن كان أقل سهولة بالنسبة له عندما قال له الإسرائيليون إن أقصي ما يستطيعون فعله بالنسبة للأردن هو التنازل عن مساحة عرضها ستة كيلومترات علي الأكثر في الضفة الغربية وهي منطقة صغيرة لا يمكن القول إنها تمثل أي اتفاق، ولذلك تم استبعاد أي اتفاق خاص بالأردن. ويعتقد إيلتز أن ذلك مثل خطاً كبيراً من جانب واشنطن حيث إنه فتح الباب أمام القرار الذي اتخذته القمة العربية في الرباط في نوفمبر 1974 باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني. عند هذه النقطة قرر كيسنجر أن يركز جهوده علي مصر ولو أنه لم يكن في عجلة من أمره بالرغم من أن السادات كان راغباً في الحصول علي شيء ما، إلا أن واشنطن (غالباً كيسنجر فقط الذي كان يتحكم في كل قرارات السياسة الأمريكية في ضوء عجز الرئيس نيكسون نتيجة فضيحة ووترجيت) كانت قد وعدت إسرائيل.. التي قالت إنها تحتاج إلي وقت أطول حتي يمكنها أن تستوعب الخسائر التي لحقت بها جراء حرب أكتوبر وبعد اتمام اتفاق سيناء واحد، كما يقول إيلتز. ولذلك يجب عدم الاندفاع في عقد سيناء اثنين، ولذلك لم تقم واشنطن بفعل أي شيء. يقول إيلتز هنا شيئاً مثيراً للاهتمام إذ إنه يوضح أسلوب السياسة الأمريكية في ذلك الوقت باتباع أسلوب المظهرية والعلاقات العامة، إذ يشير إلي أن كلمة عدم فعل أي شيء ليست كافية، لأن واشنطن اتخذت بعض هذه الإجراءات المظهرية إذا قام الرئيس نيكسون بزيارة إلي مصر في يونيو 1974 وكان ذلك حدثاً مهماً وقدم وعوداً للقاهرة بمساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة، وبعد ذلك بشهر حضر إلي القاهرة بول سايمون وزير الخزانة الأمريكي وكان المصريون يتوقعون باستمرار تدفق هذه المساعدات الاقتصادية الأمريكية، ولكن سايمون لم يؤكد أي وعود في هذا الصدد. يحدثنا إيلتز في الحلقة المقبلة، كيف شعر المصريون بخيبة أمل من جانب فشل هذه الوعود الأمريكية.