إذًا، سيعود الفلسطينيون والإسرائيليون إلي التفاوض وإن بطريقة غير مباشرة بمباركة عربية وغطاء عربي لم يعجبا الأطراف التي تراهن علي استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة. إنها الأطراف العاجزة عن السلم والعاجزة في الوقت ذاته عن الحرب، إذا لم تكن بأجساد اللبنانيين والفلسطينيين. أكدت العودة القريبة إلي المفاوضات غير المباشرة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قبل أيام وهذا ما لمّح إليه غير مسئول إسرائيلي وفلسطيني. لماذا تلك العودة ؟ الجواب إن الأمريكيين، علي رأسهم الرئيس باراك أوباما مصرون علي ذلك. وإلي اشعار آخر، ليس أمام الجانب الفلسطيني سوي القبول بما يريده الأمريكيون، خصوصا أن الإدارة سعت في الفترة الأخيرة إلي توفير ضمانات، أو علي الأصح تطمينات معينة للجانب الفلسطيني. تشمل الضمانات والتطمينات التي حصل عليها رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس (أبومازن) تحديد مرجعية للمفاوضات، أي حدود الدولة الفلسطينية، مع تأكيد أنها تشمل القدس إضافة إلي تجميد الاستيطان، ذي الطابع "الاستفزازي" في المدينة المقدسة، من دون إعلان حكومة بنيامين نتانياهو عن ذلك. الأكيد أن الضمانات الأمريكية ليست كافية ولا تعني، بسبب غموضها، أن الجانب الإسرائيلي سيقبل أوتوماتيكيا بقيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" استنادا إلي خطوط العام 1967 عاصمتها القدسالشرقية. ولكن ليس أمام الجانب الفلسطيني سوي السعي إلي تحقيق إنجاز ما علي طريق إقامة الدولة المستقلة "القابلة للحياة" في ضوء الرغبة الأمريكية في الوصول إلي هذا الهدف. هناك في الوقت الراهن وعي فلسطيني لأهمية تفادي أخطاء الماضي. هذا الوعي موجود لدي السلطة الوطنية ولدي الحكومة المنبثقة عنها برئاسة الدكتور سلام فياض. وهناك في الوقت ذاته رغبة إسرائيلية في دفع الفلسطينيين إلي تكرار أخطاء الماضي وذلك من أجل قطع الطريق علي أي تسوية من أي نوع كي تعيد للشعب الفلسطيني بعضا من حقوقه المشروعة في أرضه التاريخية. وهناك إدارة أمريكية تدرك أخيرا أهمية التوصل إلي حل عادل، إلي حدّ ما، في فلسطين. ينبع ذلك من أن القيادة العسكرية تعرف جيدا أن من بين أسباب العداء للوجود الأمريكي، في كل المناطق التي تخوض فيها الولاياتالمتحدة حروبا، الشعور بأنها منحازة إلي إسرائيل وأنها تشارك تاليا في اضطهاد الشعب الفلسطيني. في ظل هذه المعادلة المعقدة تأتي تصريحات الوزيرة كلينتون في شأن العودة إلي المفاوضات غير المباشرة. سيذهب الفلسطينيون إلي المفاوضات من دون أوهام. سيذهبون إلي المفاوضات وهم يعرفون جيدا أن عليهم متابعة ترتيب البيت الداخلي نظرا لأنه لا بديل لديهم من ذلك. تتم عملية ترتيب البيت الداخلي عن طريق متابعة بناء المؤسسات الفلسطينية كي تكون الدولة جاهزة في النصف الثاني من السنة المقبلة، شاءت إسرائيل ذلك ام ابت. علي المسئولين الفلسطينيين تأدية واجبهم تجاه شعبهم أوّلا. لا شك أن الوضع الداخلي الفلسطيني صعب في ضوء الانقسام الحاد الذي أدي إلي قيام كيان مستقل في قطاع غزة تحول "إمارة إسلامية" ذات طابع طالباني تحكمها "حماس". لكن ذلك لم يحل، لحسن الحظ ، دون ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية ومنع فوضي السلاح فيها. كان مهما أن تكون هناك أرض فلسطينية غير طاردة لأهلها... صارت الضفة الغربية، علي العكس من غزة، أرضا تجتذب الفلسطينيين إليها. ولذلك، باشرت حكومة نتانياهو اتخاذ اجراءات تستهدف إبعاد مقيمين في الضفة بحجة أنهم ليسوا من أهلها. لم تنجح إسرائيل في حملتها هذه. الكرة لا تزال في ملعبها. لكن السؤال الكبير ما الذي ستفعله إدارة أوباما بعد استئناف المفاوضات وإن بطريقة غير مباشرة؟ هل تقف مكتوفة تتفرج علي حكومة نتانياهو تفاوض من أجل التفاوض بهدف إضاعة الوقت ام تطرح مشروعا يصلح اساسا لتسوية؟ المؤسف أنه ليس أمام الجانب الفلسطيني سوي الرهان علي الإدارة الأمريكية. لا مفرّ من الاعتراف بأنّ الوصول إلي تسوية يعتمد علي ما إذا كانت إدارة أوباما ستقدم علي خطوة حاسمة في اتجاه طرح مشروعها الخاص بالتسوية. باتت الأسس التي يمكن أن يقوم عليها المشروع الأمريكي معروفة. ولا شكّ أن "أبومازن" فعل كل ما يستطيع من أجل تشجيع إدارة أوباما علي الاقدام علي هذه الخطوة وذلك عندما اختار قبل أيام التوجه إلي الإسرائيليين مباشرة عبر التليفزيون الإسرائيلي. طرح رئيس السلطة الوطنية فكرة تبادل الأراضي، هو الذي يعرف جيدا أن لا بديل من خطوط العام 1967 كمرجعية للمفاوضات. لكن الرئيس الفلسطيني يعرف في الوقت ذاته أن لا مفر من تعديلات علي هذه الحدود، خصوصا إذا كان مطلوبا حصول الفلسطينيين علي ممر يربط بين غزة والضفة. أكثر من ذلك، طمأن الإسرائيليين إلي أن الدولة الفلسطينية المستقلة لا تؤمن بالعنف ولا باستمرار النزاع إلي ما لا نهاية. إذا كان مطلوبا التوصل الي تسوية، هناك حلول لكل القضايا المعقدة بما في ذلك القدس واللاجئون والحدود. هناك الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي أواخر العام 2000 وبداية العام 2001 بعد فشل قمة كامب ديفيد. وهناك الإطار العام للتسوية الذي طرحه الرئيس بيل كلينتون قبيل مغادرته البيت الأبيض. لا يمكن أن يكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها التسوية إلاّ ارادة أمريكية قوية تستند إلي رؤية واضحة لمستقبل الشرق الأوسط. تقوم هذه الرؤية علي أن شعوب المنطقة عانت طويلا من حالة عدم الاستقرار التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي ومن سياسة إسرائيلية تستثمر في تغذية التطرف لتبرير استمرار الاحتلال. لم تنشأ حركة متطرفة أو مذهبية في أي بقعة من المنطقة، خصوصا في لبنان وفلسطين، إلاّ ولقيت تشجيعا مباشرا أو غير مباشر من إسرائيل. هل تقدم إدارة أوباما علي طرح مشروعها... أم تترك إسرائيل تقرر كيف يجب ان تتصرف القوة العظمي الوحيدة في العالم في الشرق الأوسط؟ أيام قليلة ويتبين هل هناك رئيس أمريكي يستطيع القول لإسرائيل أنه صاحب الكلمة الأولي والأخيرة في المنطقة.