السؤال... هل النسق الثقافي العام لأي مجتمع هو الذي يشكل نسقه الاجتماعي أم أن العكس هو الصحيح؟ السؤال بمعني آخر... أيهما فعل وأيهما رد فعل للآخر... هل البنية الثقافية للمجتمع هي نتاج طبيعي ومنطقي لبنيته الاجتماعية أم أن العمران الاجتماعي وما يشكله من علاقات ومعاملات هو الذي يشكل بالتبعية الحالة الثقافية العامة لهذا المجتمع. السؤال مرة أخري وأخيرة.. هل الحالة الثقافية العامة للمجتمع هي ناتج العلاقات الاجتماعية بين أفراده أم أن الحالة الاجتماعية هي التي تفرض نسقًا ثقافيا مهيمنًا؟!.. إننا عندما نذكر الحالة الثقافية العامة إنما نقصد هذا الكل المركب من الأسس التي تشكل البنية الفكرية ومنطلقات التفكير لدي الأفراد المكونين لهذا المجتمع ونقصد بالحالة الاجتماعية العامة ذلك المجموع من ردود الأفعال القولية والفعلية تجاه مشكلة ما تكون مطروحة علي مائدة هذا المجتمع بصورة جماعية في لحظة ما أو تكون خاصة بجزء من هذا المجموع العام - الجماعات الإثنية علي سبيل المثال (بدو - نوبيون - صعايدة)... - أو ردود الأفعال الجماعية للمجتمع القطري ككل... ثم نعود للسؤال المفتتح وسياق الحديث... لا يذكر المجتمع وعلومه إلا ويذكر (ابن خلدون) وسبب استحضاري لسيرة هذا العلامة وهو حاجتنا الشديدة هذه الأيام لهذا الرجل وفكره الرشيد... ابن خلدون الذي يمكن اختصار مجمل أفكاره في مبدأ جوهري خلاصته الانتقال من حالة وصف ما جري في مجتمع إلي محاولة التوصل للقوانين التي أدت إلي ما جري في المجتمع... ابن خلدون الذي طرح فكر وفكرة سببية أحداث التاريخ ومدي تلازم أسباب معينة مع نتائج بعينها. ثم نعود إلي التساؤل الرئيسي محل حديثنا حتي لا يضل منا المتلقي هل انصرافنا كمؤسسات تربوية وتعليمية وسياسية عن دراسة فكر ابن خلدون هو الذي جعل من مجتمعاتنا فريسة سهلة لشراء الثقافات الوافدة إلينا من بيئات صحراوية تختلف عنا في التكوين الاجتماعي والأنثربولوجي؟ هل ينطبق علي مجتمعنا المصري القانون الفيزيائي الشهير بأن الطبيعة تكره الفراغ فكان غياب فكر عام من حياة مجتمع بمثابة الفراغ الذي استطاع فكر آخر أن يملأه؟ ومن السؤال يتولد سؤال فينبثق منه سؤال ثم يتفرع منه سؤال هكذا في منظومة استفهامية لا تنتهي. إن المجتمع المصري مثل غيره من المجتمعات لا يعيش كله علي قلب رجل واحد من الإجماع الثقافي والفكري بل هو بطبيعته مجتمع متعدد الجماعات الفرعية والإثنية فهناك كما ذكرنا البدو والنوبيون وسكان الوجه البحري وسكان الوجه القبلي بل إن هذه الجهات الجزئية من المجتمع المصري تتشكل داخلها مجتمعات فرعية أصغر منها ومن الطبيعي والمنطقي أن يجمع كل هذه الأنساق المتباينة فكرة واحدة هي فكرة الدولة القطرية المهيمنة... ولكننا نري عكس ذلك إن سطوة وسلطة الثقافة الخاصة بكل جماعة مذكورة لها اليد الطولي في تشكيل حياة من هم تحت لوائها مما يجعل المجتمع في النهاية مجتمعًا رخوًا غير متماسك قائمًا علي فكرة وجود مجموعة من الناس في مكان يجمعهم نسق مشترك ورؤية متوارثة للحياة أكثر مما يجمعهم فكرة وفكر المواطنة، لا أحسب أن القارئ قد اهتدي للإجابة عن سؤالي الأساسي هل المجتمع هو منتج ثقافته أم أن الثقافة هي التي تنتج مجتمعًا وتشكل علاقاته؟ حتي وقت قريب كان المجتمع هو الذي ينتج الثقافة وكان لكل مجتمع فرعي ثقافته الخاصة ثم حدث تغير جذري في بنية المجتمع المصري ككل وأصبحت الثقافة هي التي تنتج مجتمعًا وأعني بذلك ثقافات مثل ثقافة الفضائيات بكل ما تحتويه من فتاوي وبرامج سياسية وحوارية صاخبة... ثقافة الإنترنت وحجرات الدردشة ،ثقافة صحافة المانشيتات الزاعقة وغير ذلك.. أزعم أن هذه الثقافات هي التي أصبحت تشكل المجتمع وتوجه معنوياته بوجه عام. إن الفطرة السوية تستلزم أن ينتج المجتمع ثقافته وليس العكس عندما ينتج المجتمع ثقافته تصبح هذه الثقافة ابنة شرعية لها ملامح تنتمي لرحمها الطبيعي وهو الرحم الذي نمت بداخله حتي يكتمل نموها ثم تخرج للحياة ككائن نابض بالروح ولكن عندما تفرض ثقافة علي مجتمع فمهما حدث من محاولات صياغتها فسوف تكون دائمة ابنة بالتبني ابنة بالاسم لا بالدم... وكم صدقت الآية حين قالت (ادعوهم لآبائهم هو أقرب للتقوي) وما أبونا في هذا المقام إلا مجتمعنا الذي صار مسخا مشوها.