انشغل الرأي العام، علي مدي سبعة أشهر كاملة، بقضية تعيين أعضاء البرلمان بوظيفة من الوظائف الحكومية أو شبه الحكومية أثناء عضويتهم البرلمانية، ومن قبل استهجن الرأي العام علي مدي سنوات طوال تعامل الحكومة - بالمعني الواسع - مع أعضاء البرلمان، بيعا أو شراء أو مقايضة.. أو تاجرا أو موردا أو مقاولا، ومع ذلك أثيرت القضية من جديد وكأنها مازالت محل خلاف أو جدل، رغم أنها محسومة من قديم الأزل منذ أيام منح الرتب والنياشين أو الأوسمة والأنواط فكانت محظورة علي نواب البرلمان أثناء عضويتهم النيابية!. والحكمة من هذا الحظر أو ذاك، الحيلولة دون التأثير علي عضو البرلمان أثناء أداء عمله النيابي بمجاملته، أو استغلال نفوذه، وذلك تمكينا له من أداء رسالته والقيام بمسئولياته، وتوفيراً لمناخ المشروعية والحيدة بحسبانه ممثلا للأمة كلها ومسئولا عن تحقيق مصالحها، والرقابة علي أعمال السلطة التنفيذية. ومنذ قديم حرصت الدساتير كلها علي أن تضع نصا صريحا يحظر علي عضو البرلمان أن يشتري شيئا من أموال الدولة، أو يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه، أو يبرم مع الدولة عقدا بوصفه ملتزما أو موردا أو مقاولاً، كما حرصت أن يأتي هذا الحظر وغيره في كثير من القوانين، فتحظر تعيينه في إحدي الشركات الأجنبية أو المشروعات الخاضعة للقانون، ولا يجوز له أن يقبل عضوية مجالس إدارة الشركات المساهمة إلا إذا كان يساهم فيها بنسبة معينة أو كان قد شغل هذه الوظيفة من قبل تعيينه!. وهذا الحظر الوارد بتلك النصوص سواء كان نصا دستوريا أو نصا في معظم القوانين أو اللوائح، جاء صريحا واضحا لا لبس فيه، وفلسفة الحظر وحكمته أكثر وضوحا، لأن النصوص قررت ضمانات لعضو البرلمان ولذات الحكمة، حماية له عند الاتهام والمساءلة والقبض، منعا من الكيد له أو التنكيل به أو خطفه من بين أحضان المجلس، قررت حمايته كذلك من التأثير والمجاملة. هذه القواعد الدستورية موجودة عندنا في نصوص الدستور ذاته منذ عام 3291، ثم دستور 0391 منذ زمان منح الرتب والنياشين والأوسمة والأنواط، وبعدها دستور 6591، ثم دستور 4691، وأخيرا دستور 1791 ومازالت باقية حتي الآن وبوضوح، حيث كانت تحظر منحها لعضو البرلمان أثناء عضويته، كما استمر الحظر في دستور 1791 بنص المادة 59، وقانون مجلسي الشعب والشوري بنص المادة 82 بحظر التعيين في وظائف الحكومة أو القطاع العام، وما في حكمها أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته، ويبطل أي تعيين علي خلاف ذلك، وهو نفس النص الوارد بالمادة 42 من قانون مجلس الشوري، وذات الحظر أيضا موجود في قانون الشركات المساهمة الصادر عام 1891 بنص المادة 971 ولائحته التنفيذية، والتي أضافت جزاء البطلان وأن يرد العضو ما قبضه من الشركة لخزانة الدولة، بل إن هذا النص كان موجوداً بنص المادة 79 من قانون الشركات الصادر عام 4591!. وفضلا عن وضوح وصراحة هذا الحظر والجزاء علي مخالفته، فإن الحكمة من الحظر أيضا واضحة وهي أن يسمو بأعضاء المجالس النيابية عن مواطن الشبهات ومظنة استغلال النفوذ بما يؤثر علي القيام بمهامهم النيابية، ولم يرفع الحظر إلا في الأحوال التي قرر فيها المشرع انتفاء شبهة التأثير أو مظنة الاستغلال بدافع من رغبة المجاملة أو التأثير. وفضلا عن هذا وذلك فلقد قالت الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة، بهذا الرأي وطبقته منذ عشر سنوات ويزيد، وتحديدا بمناسبة النائب عبدالله عبدالفتاح طايل خلال عضويته ببرلمان 5991، بمناسبة اختياره عضوا ممثلا لبنك مصر اكستريور في إحدي شركات البنك للاستثمارات المالية، وقد كان نائبا لرئيس مجلس إدارة البنك وعضوا منتدبا له، وقالت الجمعية العمومية رأيها بسريان الحظر في شأنه، بل وأشارت أنها ليست المرة الأولي، بل قد استقر افتاؤها علي ذلك منذ بعيد. ولهذا يبدو مدهشا أن نعود فنخطئ.. ونتقبل الخطأ.. وندافع عنه.. ثم نطلب صدور رأي الجمعية العمومية من جديد.. ونتناسي السوابق، ونكتب طالبين الرأي، وكأن الأمر مازال محل خلاف أو جدل.. علي جهة الإفتاء ذاتها يكون قد أصابها النسيان.. ثم ندافع.. ثم نتباهي بسرعة التنفيذ وكأنها أول قضية تثار أو أنها قضية جديدة علي الساحة، ليشغل بال الرأي العام علي مدي سبعة أشهر كاملة.. مع أن القضية محسومة.. سواء كانت بشأن حظر تعيين أعضاء البرلمان في وظائف أثناء عضويتهم.. أو التعامل معهم شراء أو بيعا أو إيجارا أو مقاولة أو مقايضة أو غير ذلك.. يا سبحان الله!.