كل من كان موجوداً في محيط منطقة الحرم بمكة المكرمة عرف بأن الرئيس الأفغاني كرزاي جاء ليؤدي العمرة، فالاستنفار الأمني والمروري كان ملحوظا، وكثيرون رأوا كرزاي وربما رافقوه في الطواف والسعي بين الصفا والمروة.. لكن هؤلاء لم يعرفوا بالطبع بماذا كان يدعو الرئيس الأفغاني.. هل كان يبتهل الي الله أن يدعم حكمه ويحميه من هجمات طالبان، أم كان يدعوه أن يخفف وطأة معارضين له من خارج طالبان.. أم كان يدعوه ليطيل بقاء القوات الأمريكية في الأراضي الافغانية في ظل الهجمات التي لا تتوقف وتتعرض لها العاصمة الأفغانية كابول. لكن الأغلب أن من عرفوا بوجود كرزاي في الحرم عرفوا بأمر دعوة واحدة من دعواته إلي الله وهو يطوف بالكعبة وهي أن يستجيب القادة السعوديون لطلبه برعاية مصالحه بين حكمه وحركة طالبان.. فقد استبق كرزاي زيارته للسعودية بالإعلان عن رغبته بأن ترعي مثل هذه المصالحة، بينما جاءه الرد علي لسان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الذي اشترط لتلبية كرزاي شرطا ليس بيده هو وإنما بيد طالبان، وذلك حينما رهن أي دور سعودي في هذا الأمر بأن تتوقف طالبان عن حماية بن لادن والتي تمنحه ملاذا آمنا في المناطق التي تسيطر عليها. وهذا الشرط السعودي يبدو في الأفق المنظور صعب التحقيق، لأن العلاقة بين طالبان وبن لادن ليست ضعيفة، وإنما هي علاقة وثيقة، وأيضا لأن بن لادن قد يكون موجودا تحت حماية طالبان باكستان وليست أراضي طالبان أفغانستان، طبقا لتقديرات المخابرات الأمريكية. ولذلك.. فإن الأمر هكذا كان يستحق من كرزاي أن يبتهل إلي الله وهو يطوف حول الكعبة لأن تسحب السعودية شرطها هذا وتبدأ في رعاية مصالحه بينه وبين قادة طالبان. والأغلب أن هذا كرره كرزاي علي أسماع القادة السعوديين الذين التقي بهم بعد أن أدي فريضة العمرة.. فهو يري أن لا حل لمستقبل حكمه المحاصر الآن في كابول، والمهدد بهجماتها والمرفوض من قطاع واسع من المعارضة غير الطلبانية، سوي التصالح مع طالبان، والقبول بإشراكها في الحكم معه.. وذلك ما تراه واشنطن أيضا التي تتطلع ليوم تغادر فيه قواتها الأراضي الأفغانية بعد أن تورطت فيها كثيرا لسنوات طويلة، استنزفت خلالها موارد ضخمة، وسقط لها قتلي وجرحي بأعداد تضغط علي أعصاب الولاياتالمتحدة. ولذلك تطلع كرزاي إلي السعودية لكي ترعي مثل هذه المصالحة، مثلما قامت من قبل برعاية مصالحة بين فصائل المجاهدين المتصارعين علي السلطة في أفغانستان، بعد انسحاب القوات السوفيتية من الأراضي الافغانية.. وهو نفس ما تتطلع إليه واشنطن ايضا التي تريد ان تلعب السعودية دورا في تهيئة الظروف المناسبة لتتمكن من بدء سحب قواتها من أفغانستان، حتي لا يبدو هذا الانسحاب هزيمة لها، كما حدث للسوفييت من قبل. ولعل أحد أهم المطالب الأمريكية الآن من السعودية هو أن تلعب دوراً أكبر في أفغانستان، ليس باستخدام المال فقط، وإنما باستخدام ما تحظي به من مكانة دينية كبيرة. لكن السعودية تقابل هذه الدعوات بقدر من الحذر.. فهي لا تريد أن يورطها أحد في أفغانستان حتي لا يتكرر ما واجهته بعد تدخلها الواسع في أفغانستان إبان الغزو السوفيتي لها، خاصة أن المشاركة العربية بالمتطوعين ودعمهم بالمال والسلاح في مقاومة السوفييت بأفغانستان أسفرت في نهاية المطاف عن تصارع أمراء المجاهدين فيما بينهم للسيطرة علي الحكم فيها، وهو الأمر الذي استفادت منه حركة طالبان الوليدة لتنفرد هي بالحكم، كما أسفرت هذه المشاركة العربية أيضا عن مولد أهم وأخطر تنظيم إرهابي عرفه العالم في العصر الحديث وهو تنظيم القاعدة الذي يقوده السعودي الشهير بن لادن. السعودية لا تريد أن يورطها أحد في بلد لا يحظي بالأمن والاستقرار ومنغمس بشدة في الصراعات حتي يضمن لنفسه فرصة الانسحاب الآمن، والأهم الانسحاب بشرف!.. وهنا يمكن أن نفسر سر الشرط السعودي لكي تقوم بأي دور لرعاية المصالحة في أفغانستان، والخاص بأن تنفصل طالبان عن تنظيم القاعدة وتوقف منح دعمها وحمايتها لزعيمه بن لادن. والأغلب أن كرزاي سمع بنفسه من القادة السعوديين الذين التقي بهم ما قاله قبل وصوله إلي السعودية وزير الخارجية سعود الفيصل حول استحالة التدخل السعودي الآن في أفغانستان مادامت طالبان تحمي بن لادن.. ولذلك ربما كان علي كرزاي أن يؤدي عمرة جديدة ليتوجه إلي الله بدعوات جديدة.