كان السلاح دائما عدو الشعب الفلسطيني الذي لم يسترجع أرضا إلا بفضل المقاومة السلمية. بفضل ثورة أطفال الحجارة أولا وأخيراً التي أجبرت إسرائيل علي الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية الواقع في العام 1993 في حديقة البيت الأبيض. هناك شعب فلسطيني. هذا الشعب حقيقة حية. لا يحتاج هذا الشعب إلي السلاح لإثبات أنه موجود. السلاح عدو الشعب الفلسطيني أكان سلاحا خارج سيطرة السلطة الوطنية في غزة والضفة الغربية... أم كان داخل المخيمات في لبنان أو خارجها. ما هو أهم من السلاح، لغة الارقام التي هي في واقع الحال حليف الشعب وقضيته. كانت الارقام التي صدرت قبل أيام عن هيئة رسمية فلسطينية مفيدة إلي حد كبير، خصوصا أنها تتعلق بعدد أفراد الشعب الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم. هناك نحو عشرة ملايين وتسعمائة ألف فلسطيني، استنادا إلي الارقام التي وزعتها الهيئة. نصف هؤلاء في فلسطين والنصف الآخر خارجها. عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية مليونان ونصف المليون، فيما هناك في قطاع غزة مليون ونصف المليون فلسطيني. وفي إسرائيل نفسها يوجد مليون وربع المليون فلسطيني. الباقون موزعون علي الأردن، حيث يوجد نحو ثلاثة ملايين فلسطيني، والدول العربية الأخري وفيها نحو مليون وثمانمائة ألف فلسطيني. ويتوزع نحو ستمائة وثمانية عشر ألف فلسطيني علي دول أجنبية. ماذا تعني هذه الارقام؟ تعني قبل كل شيء أن الشعب الفلسطيني موجود وأنه توجد هوية فلسطينية لا سبيل لالغائها. هذا الشعب الفلسطيني، بهويته الواضحة وضوح الشمس، حقيقة موجودة علي الخريطة السياسية للشرق الأوسط. السؤال كيف يمكن تحويل هذا الوجود السياسي إلي وجود من نوع آخر يتمثل في إيجاد مكان للشعب الفلسطيني علي الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط. كان ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني يقول إن من يضع نفسه علي الخريطة السياسية لا يمكن إلا أن يصل إلي أن يكون علي الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط أو أي منطقة أخري من العالم. مهما فعلت إسرائيل ومهما ستفعل في المستقبل، لن تكون قادرة علي الهرب من الواقع الفلسطيني. أن يصر بنيامين نتانياهو علي تسمية إسرائيل دولة يهودية والاعتراف بها علي هذا الأساس ومن هذا المنطلق لا يعني في أي شكل أن في الامكان تجاوز المشكلة الأساسية التي اسمها الشعب الفلسطيني. لدي هذا الشعب حقوقه "غير القابلة للتصرف" باعتراف الأممالمتحدة نفسها. لا يمكن استثناء الشعب الفلسطيني من حقه في ممارسة حقه في العيش في إطار دولة مستقلة "قابلة للحياة" والحصول علي حقوقه الوطنية مثله مثل أي شعب آخر في المنطقة. ليس طبيعيا أن يظل الفلسطينيون استثناء بعد سنوات طويلة من النضال الوطني توجت بحصول منظمة التحرير الفلسطينية علي وضع عضو مراقب في الأممالمتحدة. معظم دول العالم تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك إسرائيل نفسها. لم يعد مقبولا في أي شكل في السنة 2010 أن تكون منطقة الشرق الأوسط من دون دولة فلسطينية. في فلسطين، سيتبين ما إذا كانت إدارة باراك أوباما جدية. أكد رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عبّاس (أبومازن) في خطاب ألقاه في الذكري الخامسة والأربعين لانطلاق الثورة الفلسطينية، ذكري انطلاقة "فتح"، أنه لا عودة إلي السلاح. النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال سيكون سلميا. تعلم الفلسطينيون من درس ما سمي في أواخر السنة 2000 "عسكرة الانتفاضة". خسر الفلسطينيون الكثير بسبب القرار الخاطئ باللجوء إلي السلاح في مواجهة الاحتلال. تبين لهم أن لا أحد يستطيع إلغاء حقوقهم الوطنية. ولكن تبين لهم في الوقت ذاته أن اللجوء إلي السلاح سقوط في الفخ الإسرائيلي. إسرائيل تتمني أن يتمسك الفلسطينيون بالسلاح بدل التمسك بقرارات الشرعية الدولية المستندة إلي مبدأ الأرض في مقابل السلام. يخطئ من يجري مقارنة بين الضفة الغربيةوجنوب لبنان. لم تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000 ولم تنسحب من قطاع غزة صيف العام 2005 إلا من أجل الاحتفاظ بجزء من الضفة الغربية وتكريس احتلالها لهذا الجزء، بما في ذلك القدسالشرقية. يشكل رفض "أبو مازن" أي مقاومة عن طريق السلاح تعبيرا عن سياسة في غاية الدهاء. تلك هي المقاومة الحقيقية للاحتلال وليس الصواريخ المضحكة - المبكية التي كانت تطلق من قطاع غزة والتي سمحت لإسرائيل بتدمير جزء كبير من قطاع غزة وممارسة ارهاب الدولة قبل عام بالتمام، فيما العالم يتفرج. كان الموقف من الحرب علي غزة الامتحان الأول لإدارة أوباما. اختارت إسرائيل اختبار الرئيس الأمريكي الجديد عشية دخوله البيت الأبيض. شنت حربها علي غزة بعدما قدمت لها الصواريخ التي كانت تطلق من القطاع كل المبررات التي هي في حاجة إليها امام المجتمع الدولي. الأهم من ذلك أنها اختبرت أوباما. تبين لها أن الرئيس الأمريكي الجديد ليس جديا في تطبيق سياسته المستندة إلي حل الدولتين. بعد حرب غزة، صار سهلا علي إسرائيل تجاهل الدعوات الأمريكية إلي وقف الاستيطان. الفلسطينيون أقل بقليل من أحد عشر مليونا. للمرة الأولي في تاريخهم الحديث، وعلي الرغم من كل الأخطار المحدقة بقضيتهم، بدأوا يتصرفون بطريقة منطقية آخذين في الاعتبار موازين القوي الاقليمية من جهة ومخاطر اللجوء إلي السلاح من جهة أخري. اثبتت التجارب أن السلاح يشكل الخطر الأكبر علي القضية الفلسطينية. في كل مكان فيه وجود فلسطيني، يشكل السلاح تهديدا للقضية. حصل ذلك في الأردن. كاد السلاح أن يؤدي إلي تنفيذ مشروع الوطن البديل لولا حكمة الملك حسين، رحمه الله، وحزمه. وحصل ذلك ولا يزال يحصل في لبنان. القضية ليست قضية سلاح. القضية قضية شعب يريد الحياة وممارسة حقوقه الوطنية مثله مثل أي شعب في المنطقة، علي الرغم من الظلم التاريخي الذي لحق به. لا يمكن للقضية الفلسطينية إلا أن تنتصر مهما طال الزمن. لا يمكن إزالة أحد عشر مليون فلسطيني عن خريطة الشرق الأوسط. نبوءة ياسر عرفات لابدّ أن تتحقق، علي الرغم من كل الأخطاء والخطايا التي ارتكبها.