يأتي ميلاد السيد المسيح، بعد أن عم الفساد العالم نتيجة إيمان الشعوب بالقوة والمال علي أنها مصدر الحياة والموت، ونصبوا أنفسهم آلهة علي شعوبهم، وأرغموهم علي الخضوع لارادتهم في كل شيء. بل راحوا يجعلون من التعذيب والإجرام آلة يتلذذون من خلالها في قتل البشر وفي إرضاء آلهتهم، آلهة القوة والمال والجمال والشهوة، وبعد أن بلغ صراخ هؤلاء المظلومين إلي الله لكي يخلصهم من الظلم والاستعباد، أرسل الله من خلال الأنبياء تعاليم وتحذيرات للبشر لكي يعودوا عن ضلالهم، فكانوا يأبون لا بل يقتلوهم لاعتقادهم أنهم يناقضون مفاهيم أديانهم الخاصة وسط هذه المظالم الجمة، ظهرت نبوءة جلية علي لسان النبي أشعياء فقال معلناً: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعوا اسمه عمانوئيل أي الله معنا فهو الذي سيخلصنا من خطايانا ويعيد للإنسان كرامته ويحل علي يده السلام بين الشعوب. فراح الشعب آنذاك كله يهيئ نفسه لهذا المجيء العظيم كل واحد علي طريقته لكن العذراء مريم هيأت نفسها لهذا المجئ بطريقة مختلفة. فأخذت تصلي، وبقلب منفتح وروح متواضعة، ونفس نقية طاهرة، خالية من الأنانية، داعية الله أن يحقق وعده ويخلص العالم، لذلك استحقت أن يختارها الله، ليعد من خلالها لخلاص إنساني وروحي وضميري، يعيد به للإنسان كرامته وللعالم والعدل والسلام، عبر تغيير المفاهيم البشرية التي سادت العالم آنذاك. جاء السيد المسيح إلي عالمنا، كي يحقق المصالحة بين الله في السماء، والإنسان علي الأرض وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس بأن كلام الله لا يزول ولا يتبدل، وما يصنعه الله لا يغيره بسهولة، بل يحترم خليقته، خاصة الإنسان الذي هو علي صورته ومثاله، لذلك أعطاه السلطان أن يتسلط علي الأرض وما عليها، فهو الابن المدلل بالنسبة له وهو الذي يستحق كل شيء ليكون سعيداً فوهبه كل شيء، لكن الشيطان دخل في الإنسان عبر آدم وحواء وأدخلهما في صراع مع الصدق والضمير فخالفا إرادة الله وسقطا تحت سلطة الشيطان الذي أصبح يتلاعب بهما من خلال الشهوة والكبرياء، ومن بعدهما في نسلهما، بحيث بلغ فيهم الحقد والبغض إلي أن يقتل الأخ أخاه كما فعل قابيل بهابيل فماذا نريد من الله أن يفعل، هل نريد منه أن يقتل ابنه وهو الأب؟ هل يمكن له أن يخطأ ويعمل تحت إرادة الشيطان شراً، لا هذا غير مقبول لأن طرق الله غير طرقنا، وعدله حق وحب ورحمة، فهو الطبيب الشافي والمداوي، فكيف لا يخلص ابنه الإنسان من مرض الخطيئة وسلطة الشر، لقد حاول بواسطة الشرائع والنظم والنبوءات أن يعيد الإنسان إلي سابق عهده، لكن الإنسان كان عاجزاً أن يغلب طرق الشيطان وحيله. لقد عبر بولس الرسول في قوله إلي أهل روما عن ذلك قائلاً: كلم الله آباءنا بأشباه شتي، وفي ملئ الزمن كلمنا بابنه الوحيد مولوداً من عذراء ليفتدي البشر ويخلصهم من سلطان الخطيئة، فلا أحد استطاع أن يغلب الشرير وحيله إلا المسيح يسوع الذي لم يرتكب خطيئة واحدة، فالتجسد إذن هو تحقيق للموعد وإظهار للأبوة الإلهية التي هي الحب المطلق الذي يعطي حتي ذاته من أجل من يحب، فالمسيح كلمة الله وروح من فيه، فالله روح والمسيح منه، وهو الكلمة، والكلمة تنبع من الفكر، إذن هو فكر الله وحبه الخلاصي. التجسد يعني أن الله اتخذ من الإنسان مكاناً له وأعاد خلقه من جديد، روحياً وفكرياً وجسدياً، لذلك اختار الله العذراء مريم أما لابنه الوحيد، فهي التي لم ترتكب خطيئة، بل قدمت ذاتها جسدياً ونفسياً لله مسكناً، وعبرها سينبثق النور الحقيقي للعالم، سيأخذ جسده البشري منها لأنه يريد تقديس الإنسان روحياً وليس إعادة خلق الإنسان مادياً، ندعو في هذ اليوم أن يحقق الله وعده للبشرية بأن يحل السلام علي الأرض، وأن تملأ المحبة الجميع، حتي يأتي اليوم الذي نردد فيه مع ملائكة السلام.. ترنيمة السلام: المجد لله في العلي، وعلي الأرض سلام، للناس الذين بهم المسرة. ميلاد المسيح هو بداية خلق روحي، أي تجديد الإنسان في فكره، وروحه، ومفهومه للحياة، لذلك سمي الزمن منذ ميلاد المسيح المخلص بالعهد الجديد، وهذا يعني أن الشرائع القديمة قد مضت لأنها فشلت في تحقيق الخلاص للإنسان، فهو فجر جديد انتظرته البشرية المتألمة سنين طويلة، وهو الرجاء المنتظر الذي صار فيه الإله إنساناً، وجعل الإنسان إلهاً، فأمست السماء أرضاً والأرض أمست سماء، لذلك قدومه علينا فرح وغبطة، تضاء فيه الأنوار علامة، لأن مجيئه قد محا ظلام الخطيئة الذي كان يخيم علي عقول البشر الذين كانوا يرتكبون أبشع الأعمال من قتل وفحش وظلم واستبداد، إنه النور الذي سيكشف أعمال الشيطان التي تتم في الظلام، ظلام الضمير والقلب الفاسد الشرير. لقد اشتركت الطبيعة كلها في استقبال خالقها، خاصة النجوم، فالنجم هو الذي سار أمام ملوك فارس ليدلهم علي الطريق، كما كان عمود النار الذي نزل من السماء يسير أمام موسي ليدله للخروج من الصحراء إلي أرض الميعاد، من العبودية إلي الحرية، إلي الإيمان بالإله الواحد. واليوم، ونحن نشترك مع الطبيعة أفراحها، نشترك أيضاً مع بعض الشعوب في أحزانها.. مع الشعب الفلسطيني المتألم في قطاع غزة، والضفة الغربية مع العراقيين المتألمين من الاحتلال الأمريكي لأراضيهم، مع الشعوب الأفريقية المتألمة من المجاعات والحروب العرقية.. مع كل إنسان متألم من مرض أو ألم.. أيضاً مع كل إنسان يبحث عن السعادة في عالم متألم.