فى أيام مجدها لم تكن الإسكندرية القديمة تنظر بحساسية إلى اختلاف العقائد والديانات. فقد كان الأفق السكندرى مفتوحاً أمام أى عقيدة، ما دام البعض يؤمن بها، شريطة ألا يصادر هؤلاء (المؤمنون) على حق غيرهم فى أن يكونوا (مؤمنين) بعقيدة أخرى.. وبهذه الروح السمحة، كان احترام «الإنسان» فى الإسكندرية القديمة يعنى احترام «عقيدة» أىِّ جماعةٍ من بنى الإنسان، ما دامت قلوبهم قد هويت هذا المعتقد أو مالت إلى هذا الدين. ومن هنا، حفلت المدينة بما لا حصر له من مذاهب وعقائد وديانات، فكان منها ما سوف يسمى لاحقاً بالديانات السماوية، كاليهودية. ومنها ما سوف يسمى بعد انتشار المسيحية بالديانات الوثنية. ■ ■ ■ وبطبيعة الحال، لم يكن (الوثنيون) يعتقدون فى كونهم (وثنيين) بمعنى أنهم كانوا يبجِّلون الأصنام والأوثان باعتبارها رموزاً للآلهة، وليست هى الآلهة بذاتها. وكانوا يقيمون لها المعابد ويقدِّمون إليها القرابين ويحرقون البخور، على اعتبار أنها تقرِّبهم إلى آلهتهم زُلفى.. أى أن احترام وتقديس هذه التماثيل (الأصنام، الأوثان) هو مظهر للإيمان بالآلهة المتعدِّدة، التى تمثلها تلك التماثيل. وبطبيعة الحال أيضاً، فقد كان الدستور السكندرى (غير المكتوب) يبيح حرية العبادة، باعتبار أن ذلك يدخل فى إطار الحرية الشخصية والصلة الخاصة بين الإنسان والإله. وآنذاك، لم تكن تُفرض عقوبات على غير المتقين، كتلك التى ظهرت بعد ذلك فى اليهودية المتأخرة والمسيحية المبكرة والإسلام السياسى. ومن أوسع العقائد الدينية التى انتشرت فى الإسكندرية القديمة، وغيرها من مدن حوض البحر المتوسط، آنذاك: عبادة إيزيس وعبادة سيرابيس. وهما عقيدتان كان لهما أتباع كثيرون فى القرون التى سبقت ميلاد السيد المسيح، والقرون التى سبقت استقرار الكنائس الكبرى. وقبل الكلام فى هاتين العبادتين، لا بد من الإشارة إلى أننا ما زلنا نستخدم الصيغ اليونانية لهذه الأسماء! لأن اليونانية فى ذاك الزمان كانت لغة العلم والثقافة والتجارة والأدب (كالإنجليزية اليوم). وفى اللغة اليونانية القديمة، تلحق بالأسماء لواحق تميزها. فيتميز الاسمُ المذكرُ بإلحاق حرفى الواو والسين، مثلما نقول: داريوس، يوليوس، أكتافيوس.. إلخ، ويتميز الاسم المؤنث بإلحاق الياء والألف به، فنقول مثلاً: أوكتافيا، أوفيليا، ماريا.. إلخ. والأسماء العظيمة، ومنها تسميات الآلهة، تلحق بها (السين) فنقول: زيوس، كرونوس، حورس، أوزيريس، إيزيس. أما بحسب النطق المصرى، فهذه الأسماء الأخيرة للآلهة المصرية القديمة، هى: حور، أوزير، إيزة (إيسة، إيست، إسِّت، السِّت) ولذلك ترانا فى مصر، إلى اليوم، لا نستخدم عند استعمالنا لفظة «الستّ» حرف اللام، مثلما هو الحال حين نقول: البنت، الرجل! ولا نستخدم هذه اللفظة، إلا فى سياق التقدير، فنقول: ستّ فاضلة، ستّ الستات، الستّ كريمة.. وأما إذا أردنا التحقير والتقليل من الشأن، فنحن نستخدم فى العامية اللفظة العربية: مَرَة (امرأة). ■ ■ ■ وتعود عبادة إيزيس إلى ما قبل إنشاء مدينة الإسكندرية. فهى ديانة مصرية قديمة، قامت على أسطورة طريفة تقول إن إيزيس ونفتيس وأوزيريس وست، هم أخوة أزواج! فإيزيس زوجة أوزيريس، وأختها نفتيس زوجة أخيها ست.. وقد حدثت مشاكل عائلية (كان المصريون القدماء، واليونان، يتصورون الآلهة على هيئة بشرية) وتفاقمت هذه المشاكل بين أوزير وست، فقتل الأخير أخاه وأخفاه! بأن مزَّقه إلى أربع عشرة قطعة، ووزَّع القطع على أنحاء البلاد، كيلا يجده أحد. ولكن الأختين إيزيس ونفتيس فتشتا البلاد حتى جمعتا أشلاء المقتول، وأخذتها إيزيس، الأخت (والزوجة الوفية) إلى أحراش الدلتا، ووضعتها جنباً إلى جنب، فاكتشفت أن عضو الذكورة غير موجود. لكنها، لأنها إلهةٌ تعرف السحر، جمَّعت الأشلاء، ومسَّتها بأطراف أناملها، فحملت من أوزير من غير مضاجعة، وأنجبت حور (حورس) مع أنها لم تزل عذراء. وفى أطراف الدلتا، التى كانت فى الزمن القديم منطقة أحراش ومستنقعات، اختفت إيزيس مع ابنها وتولَّت تربيته هناك، حتى اكتشف الأمر أخوها «ست» فتصارع مع «حور».. وتمزَّق قلب الإلهة بين ابنها وأخيها، وتضاعف حزنها وزادت حيرتها بعدما فقدت أخاها وزوجها أوزير، الذى صار إلهاً للعالم الآخر. وخشيت من فقدان ابنها «حورس» الذى سلبه عمُّه عينيه (عين حورس) ولكن الإلهة «حتحور» أعادت إليه بصره.. وفى النهاية، وبعد مغامرات كثيرة، انتصر حورس على عمِّه ست بمساعدة أمه إيزيس، واتخذ رمز (الصقر) وصارت أمه رمزاً للأمومة الخالقة والأنوثة المقدسة. ونظراً للطابع الإنسانى العميق لهذه (الأسطورة) وما ارتبط بها من آداب قصصية وترانيم روحية، فقد انتشرت عبادة إيزيس المصرية، فوصلت إلى أنحاء العالم اليونانى الواسع (حوض البحر المتوسط) وتعدَّلت صورة إيزيس «اليونانية» بعض الشىء، وصارت معبودة فى العالم القديم وفى الإسكندرية. ■ ■ ■ أما عبادة (سيرابيس) فهى صناعة سكندرية خالصة. ففى أيام البداية الأولى للمدينة، كانت «منف» وبقية المدن والقرى المصرية المحيطة بالإسكندرية، تنتشر فيها عبادة أوزيريس الذى صار سيداً لعالم الموتى، ورقيباً على الحياة فى الأرض، واتخذ عندهم شكلاً متجسِّداً فى صورة العجل أبيس.. يقول د. مصطفى العبادى: أشار هيرودوت إلى الصلة بين أوزيريس والعجل أبيس، فى وصفه طريقة الحمل الطاهر المقدس. فالعجل الصغير أبيس هو ابن بقرة هبطت عليها نارٌ من السماء، فحملت به. ونتيجة لهذه المعجزة، يعتبر أبيس تجسيداً لربِّ الحياة.. وفى أثناء حياته، وفقاً للمعتقد القديم، يمثل «أبيس» قوى الحياة الطبيعية. وبعد وفاته، يتحد مع أوزيريس، ويُعبد باسم مشترك: أوزير/ أبيس. وقد وجد اليونانيون مشقة فى نطق الاسم (أُوزيرابيس) فتحرَّف على ألسنتهم إلى «سيرابيس». وحسب التقاليد الدينية المصرية، نشأ له ثالوث يجمعه مع إيزيس (الزوجة) وحورس (الابن) .. وسرعان ما انتشرت معابد لسيرابيس فى أرجاء مصر، ولكن معبد السرابيوم فى الإسكندرية كان أكثرها روعة. وبينما كان اليونانيون (الإغريق) يتصورون آلهتهم عادةً فى صورة بشرية، كان المصريون يألفون تصور آلهتهم فى صورة الإنسان أو الحيوان.. وكانت الخطوة التالية، والكلام هنا لا يزال للدكتور العبادى، هى تصميم تمثال مناسب لهذا الإله المعبود، جدير بأن يوضع فى معبده الجديد بالإسكندرية. وكان بطليموس الأول (حاكم الإسكندرية) مقتنعاً بأهمية ذلك، فجاء بتمثال من آسيا الصغرى، وجعله الإله الجديد الحامى للمدينة، وحرص على إبراز التماثل بينه وبين الإله اليونانى ديونيسوس.. وتدريجياً، تمكن بطليموس الأول (سوتير) من إقحام تماثيل سيرابيس/ ديونيسوس، على تقاليد العبادة المصرية فى منف والإسكندرية. كما انتهج أسلوباً آخر، هو محاولة «إعادة كتابة التاريخ» من أجل الترويج لأفكار معينة، تُعين على تحقيق غايته. فظهرت مؤلفات تربط بين مصر واليونان، وتؤكد التطابق بين آلهة اليونان وأصولها المصرية! فالإله ديونيسوس هو فى الأصل (أوزير) والإلهة ديميتر (إيزيس) وأبوللو (حورس) وزيوس (آمون) وهرميس (تحوت).. وفى هذه الكتابات «اللاهوتية» الجديدة، آنذاك، تأكيدات كثيرة على بشرية الآلهة وألوهية البشر.. وهو ما يقدم تبريراً وتمهيداً لتأليه بطليموس الأول، مُنشئ الإسكندرية الحقيقى، تحت لقب «سوتير» التى تعنى حرفياً: المنقذ. وفى هذا الإطار، تم الترويج لفكرة لاهوتية جديدة، تقول إن إيزيس بعدما جمعت أشلاء زوجها واستعادت قطع جسمه (عدا عضو التذكير) أخذت كل قطعة على انفراد وصاغت حولها جسماً إنسانياً من الشمع والتوابل وقامت بدفن كل واحد من هذه الأجسام فى إقليم من أقاليم مصر.. ووفقاً لهذه (الصيغة) الجديدة، اليونانية، لعبادة إيزيس. فإن المصريين عبدوا العجل (أبيس) لأنه كان أكثر الحيوانات التى ساعدت إيزيس وأوزيريس فى زراعة البذرة التى اكتشفاها: بذرة القمح. ويشير العلامة ديورانت، أشهر مؤرخى القرن العشرين، فى المجلد الثامن من موسوعته الهائلة (قصة الحضارة) إلى هذا الموضوع، فيقول ما نصه: حاول بطليموس الأول أن يوحِّد الدينين (اليونانى والمصرى) بقوله إن سيرابيس وزيوس إلهٌ واحد. وشجَّع البطالمة من بعده أهل البلاد على أن يتخذوه إلهاً يعبدونه، كمعبود مشترك.. ولكن الغلبة فى الإسكندرية، بآخر الأمر، لم تكن لهذه الصيغة المصطنعة وإنما كانت للنزعة الصوفية. فقد وضعت الإسكندرية أسس الأفلاطونية المحدثة (الصيغة السكندرية لفلسفة أفلاطون) وذلك الخليط من الطقوس المليئة بالأمانى، فظلت تتنازع فيما بينها للاستحواذ على نفوس أهل الإسكندرية إبَّان القرون التى أحاطت بميلاد المسيح. وأضحى أوزيريس فى صورة سيرابيس كإله محبَّب لكثيرين من اليونان والمصريين، واستعادت إيزيس مكانتها بوصفها إلهة للنساء وللأمومة.. ولما دخلت المسيحية البلاد، والكلام هنا لديورانت، لم يجد الكهنة أو الشعب ما يحول بينهم وبين استبدال مريم بإيزيس، أو المسيح بسيرابيس. ■ ■ ■ وبعدُ فلنختتم هذه المقالة بترنيمة لإيزيس كانت تُتلى قديماً فى المعابد، بطريقة مهيبة. وهى تشير إلى جلال (الأفعى) التى كانت مقدسة فى العالم القديم، حتى جاءت اليهودية وجعلتها ملعونة مدنَّسة.. تقول الترنيمة على لسان إيزيس: يومَ أفنى كُلَّ ما خلقتُ وتعودُ الأرضُ محيطاً بلا نهاية وحدى، أنا، سأبقى وأكون كما كنتُ دوماً أفعى عصية على الأفهام.