"الحقيقة غالية يجب أن نحرسها بجيش من الأكاذيب"، انطلاقا من مقولة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، يسرد لنا الكاتب الصحفي عبده مباشر حكايات من العالم الحقيقي والواقعي للجاسوسية والجواسيس في أحدث كتبه الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، فيتحدث عن الأسلحة التي تستخدم في "ميدان حرب العقول"، وعن المخابرات بصفة عامة، ثم الأمريكية والإسرائيلية، وعن المصرية يقول: "مع أن عمر جهاز الأمن القومي في مصر لم يتجاوز الخمسين عاما، إلا أن الخبراء يعدونه جهازا متميزا، والنجاحات التي حققها تفوق حجمه وإمكاناته كثيرا". الكتاب يبدأ بمدخل منهجي بحت، يبحث لغويا في أصل كلمة جاسوس، الآتية من جس أو حس، ويمكننا أن نفهم الجاسوسية في أحد جوانبها التي يقدمها المؤلف في هذا الكتاب، وفق معني مطابق بصورة أو بأخري لمفهوم الاستشراق، خاصة عندما يذكر المؤلف أن التجسس يمكن أن يقصد به البحث عن معلومات خاصة بعادات الشعوب ومستواها المعيشي وطبيعة مشاكلها وجوانب تطورها وكل الجوانب التي تستغل فيما يسمي بالحرب النفسية، وكلها تقريبا أدوار كان يقوم بها المستشرق بشكل أو بآخر وإن اختلفت الغايات من استخدام مثل تلك المعلومات، كذلك هناك استخبارات لمعرفة استعدادات الدول وقدراتها في مجال خطط الدفاع المدني وإجراءات الأمن والوقاية، وكل ذلك من أجل استغلال نقاط الضعف والتأثير علي الروح المعنوية للعدو. "نحن في حاجة ماسة إلي الجاسوس"، هكذا يقرر مباشر تلك الحقيقة، في عالم معقد كالذي نعيشه، إلي جانب أن هناك بالطبع نوعا من المعلومات لا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق البشر، وكل الأجهزة التي توصل إليها العلم حتي الآن لا تستطيع أن تستخلص سرا من أعماق إنسان. الاستخبارات أو الجاسوسية ليست خاصة بالأعداء، إنها تبحث أيضا الأعداء المحتملين، يقول المؤلف: "فجمع المعلومات عن دولة ما ليس مقصورا علي أعدائها، بل إن الأصدقاء قد يعمدون إلي جمع المعلومات عنها تحسبا للمستقبل"، وذلك لأن العالم لا يعرف الصداقات الدائمة ولا العداوات الدائمة. الجزء الأول من الكتاب، والذي آثرنا الاكتفاء به في هذه الحلقة، يتعلق بمعلومات ومعارف عامة، تفند بعضها صفات الجاسوس ودوافعه وأي نوع من الرجال، فضلا عن إضاءات تاريخية لوقائع تجسس، تحولت فيها مدن بأكملها إلي "صناديق بريد" تنقل لوكالات المخابرات معلومات عملائها. تعتمد الجاسوسية علي منطق من يمتلك المعلومات هو الأقوي، وأن المعلومات هي عقل أي دولة وذاكرتها، بدليل أن العقلية الصهيونية اعتمدت في حماية نفسها علي سلاحين: تكريس الأموال وجمع الأسرار، لكن ليس المهم فقط جمع المعلومات، أو لا تتوقف مهمة التجسس عند هذا الحد، بل هناك عمليات تحليل المعلومات وربطها وتقييمها لتحديد الاستخدام الأمثل لها، مع الوضع في الاعتبار الخلفيات التاريخية للعدو، لذلك أنشئ في كل جهاز من الأجهزة الإسرائيلية مراكز للبحث والتقديرات والتخطيط السياسي أو التقدير القومي، أما ما دفع إسرائيل لذلك فهو عدم مقدرتها علي تحمل هزائم متكررة بسبب فقدانها للعمق الاستراتيجي، لذا تضع المخابرات الإسرائيلية أيضا في قائمة مهامها جمع معلومات سرية عن بلاد أجنبية تطمح الصهيونية العالمية في استغلالها لخدمة مخططاتها. ويذكر المؤلف أن المخابرات الإسرائيلية اتخذت من عدة بلدان في العالم مراكز للتجسس علي الدول العربية، ومن هذه المراكز: إيران وإثيوبيا وإيطاليا والنمسا وفرنسا وبلجيكا، ثم يتيح المؤلف مساحة واسعة لشرح الأساليب التي تستخدمها المخابرات في جمع المعلومات، ومنها ما قامت به المخابرات السوفيتية من التشهير بالحكام وفقد ثقة الشعوب بهم، وهو تماما ما تفعله المخابرات الأمريكية، كما تعمل المخابرات أيضا علي استغلال اتحادات العمال ومؤتمرات السلام والمنظمات النسائية ومؤتمرات الشباب، مثلما هو الحال كذلك مع استخدام الأحزاب الشيوعية وموظفي السفارات السوفيتية كضباط مخابرات في الحرب الباردة، فنشاط المخابرات علي حد تعبير المؤلف ارتبط بالصراع الإنساني منذ وجوده علي الأرض، لكن البداية الحقيقية لأجهزة المخابرات كانت مع بداية القرن العشرين وتأكدت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعلي امتداد الحرب الباردة.