فترة قصيرة هي تلك التي ضعفت فيها العلاقة بين مخرج الأفلام القصيرة الشاب إبراهيم محمد عبلة، ووالده الفنان التشكيلي محمد عبلة، وهي الفترة من سن السادسة عشرة وحتي الثامنة عشرة، لكنها لا تؤرق إبراهيم بأي حال من الأحوال لأنه يعتبرها شيئا عاديا يحدث في علاقة الأبناء بالآباء. ودون أن يدري إبراهيم، كانت نشأته في بيت والده الفنان تتيح له تعلم الكثير من الأمور والموضوعات والفنون، لم يدرك قيمتها إلا حينما بدأ في صناعة أفلامه، حينها أدرك أن متابعته ليد والده وهو يخط بالفرشاة علي اللوحة ومجاورته له في مشاهدة العديد من الأفلام، علمته قيمة التشكيل الفني وتنسيق الألوان ورسم الوجوه وغيرها. وفي بداية عمله بالأفلام اعتقد إبراهيم أن علاقات والده الموسعة من شأنها أن تسهل عليه الأمور، كأن يتعرف من خلاله علي بعض مخرجي السينما أو غيرهم، لكنه فوجئ برفض قاطع من والده. في البداية أثار الرفض حنقه بل وثورته، لكنه سرعان ما أدرك مرمي الوالد، وتمكن بنفسه من تكوين علاقات أقوي بكثير من تلك التي كان يمكن أن تتاح له من خلال والده. وفي الثلاث سنوات الأخيرة، بدأ إبراهيم يلمس تغيرا في علاقته بوالده، حينما بدآ الاشتراك في اكتشاف الأمور سويا، كأن يتبادلا الرأي في مشروع يقيمه الوالد أو فيلم يحضر له الابن، كما استطاع وضع يده علي نقاط الاختلاف والاتفاق بينهما. يضحك إبراهيم ضحكة قصيرة مندهشة وهو يشرح كيف أن والده يحب دائما البدء دون سابق تفكير أو تخطيط في المشروعات علي أمل اتضاح الرؤية أثناء العمل بها، ويضرب المثل بسفره لإسبانيا عقب تخرجه دون تحديد واضح لما يريده من هذه "السفرية"، أما هو، أي إبراهيم، فيحبذ تأمين أي خطوة يقوم بها حتي لا تتحول الأمور إلي عبث. وإذا كان إبراهيم معجب ببعض صفات والده كتفضيله للعمل الحر، وإصراره علي مواصلة فنه رغم بعض المغريات الأخري، وسعيه الدائم لتجريب تقنيات فنية جديدة وحماسه الدائم للعمل وإعطاء كل شيء حقه، من سفريات، لورش فنية، لكتابة، للاهتمام بالأسرة، إلا أن هناك ما يستغلق علي فهم إبراهيم ويحيره، فيقول: "أي واحد يمر بفترات صعود وهبوط، وفي فترات هبوطي أشكو لوالدي فأجده يأخذ الأمر علي أنه شيء عادي جدا، بل إنه يبدو متفائلا بما لا يتناسب مع الموقف ويقول هتحصل حاجة تخليك فوق". لم ينزعج إبراهيم يوما من شهرة والده، ففي وجهة نظره أن مواقف الأب في الحياة كانت لها الفضل الأكبر في تحقيق مثل هذه الشهرة -ومن أهمها دوره في الدفاع عن جزيرة "القرصاية"-، ولهذا فإنه يعتبر والده مناضلا سياسيا بقدر ما هو فنان تشكيلي، وهي الشهرة نفسها التي تجسد تحديا كبيرا أمام إبراهيم، فيقول: "أي ولد في الدنيا يكون هدفه هو التفوق علي ما أنجزه الوالد، وهنا علي أن أعترف بصعوبة تخطي المنجز الذي أنجزه والدي"، ولهذا فإنه يرغب في تحقيق ما لم يتوفر لوالده الفنان، كأن يصبح أشهر مخرج في مصر، ويبدو أن إبراهيم قد بدأ يسلك هذا الطريق، خاصة بعدما حصل عن فيلمه "الحب في زمن الكوّلة" علي جائزة أحسن مشروع تخرج في مهرجان الإسكندرية، والجائزة الكبري من المركز الثقافي الفرنسي، والجائزة الثانية في مهرجان سينما الطالب بالمغرب، كما حصل عن فيلمه "مننا فينا" علي أحسن فيلم تسجيلي في مهرجان الإسكندرية، إلي جانب حصوله علي الجائزة الأولي في صالون الشباب في مجال "الميديا آرت". اختار الوالد البدء بلحظة الميلاد، حينما غفي بجانب زوجته أثناء ولادتها بأحد مستشفيات سويسرا، وبعدما أفاق وجدها قد وضعت ابنا أسمته الممرضات في هذا المستشفي "بالكنج" لتميزه في الشكل عن باقي المواليد، حينها حضنه عبلة وظلت تلك اللحظة باقية في ذاكرته. وفي السنوات الأولي قضي عبلة مع ابنه طفولة سعيدة صحبه خلالها في جولات عدة، ويتذكر عبلة ضاحكا إحدي زياراته للحسين، التي صادف فيها الروائي الراحل نجيب محفوظ فذهب ليسلم عليه، فسأله إبراهيم: "مين ده يا بابا؟، فقلت راجل مهم بيحكي حكايات، فترك يدي وذهب ليطلب من محفوظ أن يحكي له حكاية"، لكن عبلة لا يعلم علي وجه التحديد متي ابتعد عن ولده وشعر أنه "بيتربي لوحده"، وامتدت هذه الفترة من مرحلة الدراسة الابتدائية وحتي الثانوية، كان يفاجأ خلالها بابنه وقد اتخذ مواقف كبيرة علي سنه، كحرق العلم الأمريكي وانضمامه له ولوالدته في مظاهرة ضد حرب العراق الأولي. واستمرت مفاجأة الوالد بما يفعله ولده، وكان آخر المفاجآت رغبته في ترك كلية الآثار، رغم قضاء عام كامل بها، واتجاهه لدراسة السينما، ولم يكن عبلة علي علم بميول ولده السينمائية تلك، فأشفق عليه من امتحانات القبول بالمعهد، ومن طريق الفن الذي يراه طويلا، لكنه يحلم به الآن كمخرج قادر علي تنفيذ أفكاره، كما يعبر عن فرحه بما أنجزه إبراهيم حتي الآن، خاصة حصوله علي جائزة صالون الشباب، فيقول: "فرحت لأنه حصل علي الجائزة، وحزنت في الوقت نفسه لأنه أخذها تحت اسم مستعار، وقد اضطر لذلك حتي لا يعلم أحد أنه ابني فيتم محاربته كما حدث من قبل". ويصمت عبلة قليلا، قبل أن يصف علاقته بولده كما يراها قائلا: "عمري ما بحس إنه ابني، دائما بتعامل معاه علي أنه شاب مصري عنده طموح وأفكار عايز ينفذها، وبشوف فيه الجيل الجديد المتقن للتكنولوجيا، ومن خلاله ألاحظ أحوال الشباب في بعدهم عن التسليم بالعداء لبعض الأفكار والمقولات، كمقولات الناصرية والعداء مع إسرائيل والعولمة وغيرها". وفي تربيته لولده حرص عبلة علي بعض الأساسيات، ومنها تحريره من سطوة الأب، وفتح الباب له أمام اختيارات عديدة في الحياة، وإمداده ببعض "الحاجات من الثقافة العربية"، وأن يخرج نفسه من دائرة ارتباطاته حتي لا يؤخذ الابن بمواقف الأب وعلاقاته، كما حرص علي ألا يعوده سهولة الحياة ورغدها، ويقول: "هو يستطيع الآن التعامل في حي مصري شعبي، كما يستطيع التعامل في حي غربي راق". ويسمح عبلة لولده أن ينتقده وينتقد الفن بشكل حر، حتي وإن كان حادا في انتقاده، لكنه هنا ينتهز الفرصة ليوجه لإبراهيم انتقادا يتمثل في عدم اهتمامه بالقراءة العميقة واعتماده علي استقاء المعلومة بشكل سريع، كما ينتقد سرعة غضبه".