في صراحة شديدة تحدث الروائي والشاعر السوداني طارق الطيب عن مدي أهمية التواصل الثقافي لحل مشاكل دول حوض النيل القائمة الآن، معبرا عن أسفه الشديد لقلة تفاؤله فيما يخص دول حوض النيل؛ فلا يوجد أي تواصل ثقافي من الأساس حتي يتم تطويره، والمبدع العادي في الشمال الإفريقي لا يأبه عادة بالجنوب بل بالشمال، فضلا عن ذلك، فإن كثيرًا من المبدعين في حوض النيل لا يعرف ما هي دول حوض النيل ولا عددها، مؤكدا أنه ليست هناك أي أعمدة لبناء هذا الصرح من التواصل في الأمد القصير، للأسف! رغم أن التواصل الثقافي في دول أوروبا استطاع كسر العديد من الحدود ويكسر يوميا المزيد، ثم سألته إن كان علي تواصل مع السودان فما الذي يلمسه من متغيرات أو تطورات بالمشهد الثقافي السوداني؟ يقول الطيب....أنا في تواصل مع السودان بالضرورة، ليس بالسفر أو التواجد البدني هناك، لكن عبر وسائط التواصل الحديثة المتاحة لي في فيينا، وهذه ميزة حرمت منها في السنوات الأولي قبل أكثر من عقدين، لا تصلني كتب من السودان إلا نادرا، أحيانا باليد أو عبر القاهرة في سفري السنوي لزيارة الوالدة. أما ما يتعلق بالمتغيرات أو التطورات في المشهد الثقافي السوداني، فهناك تطور من ناحية الكم المنشور، لكني لا أعثر علي أسماء واضحة لدور نشر راسخة في السودان، ولا أجد الكافي من الدوريات التي تهتم بالأدب السوداني وتروج له، ولا أسمع عن نشاطات بارزة أو دولية أو جوائز كبري لأدباء داخل السودان ولا عن أي حراك ثقافي رسمي عابر للحدود. لماذا ارتبطت كتابة الشعر بالحب الأول في مرحلة المراهقة؟ - ربما ارتبط الحب الأول بكتابة الشعر في مرحلة المراهقة بسبب ارتباط الأغاني بالأشعار أو العكس، فالراديو كان يمثل لنا رافدا مهما تربينا عليه وعلي أهمية الإنصات والاستماع، حيث لم تكن الصورة مسيطرة وجارفة بهذا الشكل الذي نراه عليها اليوم، ومعظم الأغاني العاطفية هي التي كانت تروق لنا في هذه السن أكثر من غيرها، وسائل التواصل الحديثة تسمح اليوم أكثر بالنسخ والنقل لصور وكتابات في أقل من دقيقة فلا داع للحفظ ولا داعي للكتابة الورقية! كذلك لأننا في هذه الفترة درسنا "الغزل" في الشعر: "في وصف الحبيب ومحاسنه" وتأثرنا به، فكانت الأحاسيس العاطفية لهذه السن تجد تنفيسا لها عبر تقليد الشعر للتواصل مع الحالة. النثر- فيما يتعلق بمسائل الحب- كان أقرب لكتابة رسائل الحب، حتي هذه كانت لا تخلو من ترصيعها ببعض الأشعار المحفوظة. عشت في أهم المناطق الشعبية بقلب القاهرة "عين شمس" و"غمرة" ما الذي تذكره عنهما؟ وما تجليات تأثرك بهما؟ - نعمت في طفولتي في أمكنة ثلاثة: "عين شمس" في شمال شرق القاهرة، وفي "البيومي" بالحسينية في قلب القاهرة القديمة، ثم في العريش في شمال سيناء، وهي الفترة من أوائل الستينيات حتي أوائل السبعينيات من القرن الماضي. هذه الأمكنة الثلاثة تحديدا هي بداية مكوناتي وتأثري في أول حياتي، وهناك الكثير الذي يستحق السرد عن هذه الأمكنة، يصعب هنا لضيق المجال، وقد خصصت لطفولتي كتابا كاملا في السيرة يصدر في القاهرة قريبا في كتاب كامل، وسيحمل عنوان: "محطات من السيرة الذاتية". أما منطقة غمرة أو الظاهر فهي تتعلق بشبابي أثناء الفترة الجامعية وهي الفترة التي عشت فيها في بيت خالتي حيث كنت قريبا من جامعة عين شمس التي درست بها، وحكاياتها أيضا تطول. بوصفك أستاذا للغة العربية بجامعتين نمساويتين، كيف تري حال اللغة العربية الآن؟ - حال اللغة العربية في انحدار مستمر في بلادها الأم للأسف، وصورة أستاذ العربية ما زالت صورة كوميدية في الفن، علي العكس من صورة أستاذ العربية هنا في أوروبا! الآن كل اللغات الأجنبية في بلادنا العربية لها أولوية وبريق واحترام سواء في الكلام أو الإعلان، إنها حالة اغتراب لغوي فريدة تعاني منها الشعوب العربية كافة! أسباب القصور كثيرة: فتأهيل المعلم بشكل عام علميا وتربويا محبط للغاية والمحتوي الدراسي في المدارس لا يتطور بما يتناسب مع العصر، والأدب الحديث لا يدخل ضمن المواد الدراسية المقررة، هناك قطيعة غير مبررة ولا مفهومة. ما رأيك في مصطلح "أدب المهجر"؟ لا أحبذ التصنيفات مثل أدب المهجر أو أدب المهاجرين أو أدب المرأة أو أدب الشمال وأدب الجنوب وغيرها، فهي تبدو كأنها وقعت من قعر قفة أصل الأدب، هناك توهم آخر بتوقع البعض احتواء أدب المهجر علي كتابات مهجرية لا غيرها، في ظني أن المكان مؤثر بالتأكيد في الكتابة، لكنه ليس شرطا لكتابة عن الاغتراب مثلا، الكتابة عن الاغتراب يمكن أن يكتبها كاتب لم يغادر قريته النائية وهو تحت وطأة الشعور بأشد الاغتراب والنبذ من جماعة يعيش بينها. من الجائز أن تكون هناك تقسيمات في الأدب لإبراز بعض السمات، لكن يجب أن يعود للأدب ككل، فلا مانع من استخدام المصطلح لتقسيمات أكاديمية أو دراسات إنسانية، لكن الصرامة في تقسيم الأدب لا تروق لي، فهناك أدب جيد وآخر متوسط وآخر ضعيف. هل تعتقد أن أدب المهجر استطاع أن يكوِّن ثقافة هجينة تكون أكثر قربا للفكر الغربي، أم نجح في دمج الثقافتين العربية والغربية؟ - ليس عيبا أن تكون الثقافات هجينة بمعناها الإيجابي، فكل الثقافات التي كونت حضارات عظيمة تلاقحت وأخذ بعضها من البعض، حتي الفنون الحديثة أصبحت هجينة بهذا المعني، كل عمل أدبي صادق سيكون أكثر قربا لأي قارئ يمسه المكتوب في أي مكان في العالم. سآخذ نفسي كمثال لكاتب أتي من ثقافة أخري ويعيش في الغرب، أنا لا أعيش "بين ثقافتين" بل أعيش "في ثقافتين"، ففي رأيي أن الوقوع "بين ثقافتين" هو كارثة، ففيها يكون الشخص في مكان فارغ خارج الاثنين. ثقافتي وحياتي العربية لربع قرن في مصر امتزجت بربع قرن آخر من الثقافة النمساوية تحديدا، وكونت شكلا جديدا لثقافتي وتصوراتي ووجداني وحياتي ككل. كيف يمكن للشعر العربي أن يستعيد مكانته اللائقة؟ وكيف تري محاولات الشعراء للتجديد؟ - أعتقد أن هناك أسبابًا عديدة وراء العزوف عن اقتناء الدواوين الشعرية، فالشعر الحديث تطور لمناحٍ جديدة وسلك في بنيته وشكله وتناوله دروبا لم يكن أحد يتخيلها، لم يحدث أي تطور مواز لهذه النقلة الشعرية علي مستوي تطوير التلقي، نحن العرب أيضا أتينا من ذائقة شعرية شفوية لا يصلح معها الكثير من الشعر الحديث، الذي يبدو في نواح منه كالفلسفة يحتاج إلي جهد في التفكير وإلي صبر، ونحن لم نتدرب علي هذا الجهد في مدارسنا بشكل جيد، ولم تتطور الجرعات العربية المعطاة للتلاميذ لتتناسب مع العصر، الأدب المعاصر لا يكاد يجد له مكانا علي مقاعد المدرسة، وفي الجامعات يميل لدراسة آداب من رحلوا. لو اهتممنا بالشاعر أيضا وكرمناه ماديا ومعنويا ووضعناه في صورة لائقة لجهده لأخذ موقعا مناسبا مقبولا، لأنه يبذل جهدا غير مرئي مستقطعا من حياته ووقته في مقابل ضعيف في كل الأحوال، وليس الشاعر فقط من ينقصه التقدير بل صاحب كل مهنة شريفة! ما صدي الفوران السياسي الذي يعيشه الوطن العربي في أوروبا؟ - أوروبا تتابع كل ما يحدث في العالم العربي باهتمام ملحوظ منذ البداية، بل تخصص برامج ذكية منتقاة وتحليلات تفيد السامع والمشاهد والقارئ، ولا تنقل الثرثرات العقيمة المبالغ فيها في إعلام العالم العربي. في الشرق نحن نهتم أقل بما يحدث في بقية أرجاء العالم، ولا نعرف عن البلاد الإفريقية المتاخمة أو الآسيوية إلا في أوضاع الخطر أو الحروب، مع أنه ينبغي- ومن الأذكي- أن تزداد أكثر متابعة أمور هذه البلاد والتواصل معها في أوقات السلم. في روايتك "بيت النخيل" تحدثت عن الصراع العقائدي ومحاولة سطوة مفتعلة من كلا الجانبين المسيحي والمسلم علي الآخر، ما آثار الازدواجية والصراع علي أدبك؟ وكيف تواجهه كمهاجر؟ - في بيت النخيل هناك محاولات غير مفتعلة وإنما مدروسة وممنهجة من المسيحي الأوروبي التبشيري للسيطرة علي أرض، وهناك محاولات من المسلم العربي للسيطرة علي نفس الأرض. هذه المحنة يضيع في رحاها أهل المكان الذين يضطرون بسبب الحاجة المادية للرضوخ والتنازل عن عقائدهم الروحية، فيلبس هؤلاء الجينز والتي شيرت دون قناعة، ويلبس هؤلاء الحجاب والجلابية دون اعتقاد ويظل الإيمان الحقيقي معلقا في الهواء. - ليس هنا صراع مسيحي- إسلامي في النمسا الدين الإسلامي معترف به في النمسا من قبل الدولة، وليست هناك مشكلات في ممارسة كل شخص لدينه، هناك في فيينا وحدها من المساجد وأمكنة العبادة للمسلمين ما يزيد علي الخمسين، لكن كالعادة هناك طائفة موجودة في كل مكان لها عداء أزلي مع الإسلام علي طول الوقت. تحدث بعض التجاوزات ويتم تهدئة الأمور بسرعة وعقل، لكن لا يمكن مقارنتها في الوقت الحالي بما يحدث من منغصات دينية في بلادنا. أحيانا تستخدم أسلوب الدوائر في نظم القصيدة، فيشعر القارئ أنها موضوعات متصلة منفصلة، خاصة في ديوانك "ليس إثما" رغم أن هذا الأسلوب مستخدم أكثر في السرد، ما تعليقك؟ - في ديوان "ليس إثما" هناك تكرار لهذه الجملة: (ليس إثما- الإثم هو)، لغرض تكراري فني، وهو ديوان ينعكس بنصوصه في المقام الأول علي ديوان سابق بعنوان (بعض الظن)، يمكن قراءة ديوان "ليس إثما" كقراءة أفقية بشكل منفصل وسيكون الترابط فيه عبر تكرار البدايات التي تمثل معابر لدخول كل نص، كما يمكن قراءة النصوص كقراءة رأسية بارتباطها بنصوص الديوان السابق (بعض الظن)، أي أن تماس النصوص يسير أفقيا في ديوان "ليس إثما" ورأسيا لو ربطنا الكتابين معا. هناك إشكالية دائمة لإيجاد حدود فاصلة بين الشعر والنثر في قصيدة النثر، نحن في عالمنا العربي ما زلنا ندور في مشكلات وخلافات التسمية. ما أحدث مشروعاتك الأدبية؟ - انتهيت قبل أيام من كتاب عن السيرة الذاتية، من المفترض أن يصدر هذا العام حمل عنوان: "محطات من السيرة الذاتية"، يتناول طفولتي في القاهرة بشكل تفصيلي في خلال ربع القرن الذي عشته في مصر، ووقعت عقدا في ربيع هذا العام مع ناشري في برلين لنشر ديواني الجديد بالألمانية وترجمة العنوان للعربية تعني (هو في الذاكرة) يصدر في خريف هذا العام.