الحقيقة أنّ ثوريي ومحاربي شاشات الإعلام يضيعون عقولنا في هوجائية لا تضيف شيئا إلي حماسنا في الإعجاب بما قام به الشعب التونسي.منذ عشرات السنين أوجز لنا شاعر من تونس هو أبو القاسم ألشابي، أنّه لم يعد في وسع أحد إجبار أية أمّة علي الركوع متي هبّت للنضال إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بدّ أن يستجيب القدر !ولعلّ هذا يفسّر العبارة التي وردت في خطاب زين العابدين بن علي في اللحظات الأخيرة: الآن أفهم الكثير ! وإني لآسف لشغلنا حول هوامش الأحداث، يبهرنا هروب الرئيس التونسي، بأكثر ممّا تشغلنا الأسباب أو يشغلنا وماذا بعد ؟ والانفلات الأمني كيف نوقفه، وكيف نقيم صلة بين ما وقع وبين الارتقاء المطلوب ؟ والاضطرابات التي وقعت لا يقودها حزب أو اتّجاه سياسي ، والشعب قد هبّ تلقائيا وقد أشعلته لحظة ظلم أكيدة ومؤكّدة. والجميع انتفض لينال نصيبه من الكعكة،واستعدّ «راشد الغنّوشي» زعيم حزب النهضة الإسلامية للعودة سريعا من انجلترا. الكلّ يسارع إلي الاستفادة من حدس بالظلم صنعه العالم كلّه وجسّده «محمّد بو عزيزي» من بلدة سيدي أبوزيد، أحرق نفسه لإنّه عجز عن الحصول علي عمل وهو خرّيج الجامعة فراح يعتاش من بيع الخضار ، فلم يتركوه وتعقّبته الشرطة بحجّة أنه لايحمل ترخيصا قانونيا! علي الجميع أن تستوقفهم هذه اللحظة طويلا، ليروا اسم زين العابدين بن علي وصورته وزوجته ونظامه، علي وهج النيران التي أشعلها بوعزيزي في جسده . يجزع القلم ،وأنا أحرّضه علي متابعة الأسئلة الساذجة حول تأثيرات ما وقع في تونس علي جيرانها..لكنّ هذا من جانب عديد من المثقّفين والإعلاميين كان من أنشطهم «مني الشاذلي»، لا يدلّ إلاّ علي العجز ، ينطبق عليهم المثل العامي «مباهاة القرعة بشعر بنت أختها» .ونحن نري أنّه لا يكاد يوجد بلد من بلدان الشرق الأوسط، المنطقة التي تعوم في بحيرة القلق والاضطراب والحروب، في حاجة إلي منشطّات خارجية. وليس بين هذه البلدان من لم يجرّب من الاحتجاج إلي الإضراب إلي الاعتصام ، ناهيك عن الهبّات والانتفاضات والانقلابات، والثورات ولو ضدّ الاستعمار. وهناك بعد حصول هذه البلدان علي استقلالها، معضلة إقامة نظم ديمقراطية تسعي للظهور وسط هذا الاضطراب.ولا يمكن إقامة صلة ميكانيكية فورية بين الهبّة البرتقالية، والخضراء وانتفاضة الياسمين، وبين ماينتويه أي بلد آخر للارتقاء ! والرغبة في التغيير تكشف عنها دائما ظروف معقّدة ومتناقضة. ما يعنينا هو مفاجأة الانتفاضة التونسية التي استمرّت نحو شهر ،لتقع علي رأس النظام التونسي ورئيسه زين العابدين ، بينما يسترخي في وهم أنّ الوصول إلي قمّة السلطة هو نهاية التاريخ. وبمدّ التحليل إلي معظم بلدان المنطقة نري البقاء في الحكم لا التغيير الذي حلمت به الشعوب هو الهدف الأساسي للأنظمة. وتشابهت الصورة في معظم البلدان وأغلق باب اشتغال الشعوب بالسياسة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، تكوين أحزاب أو نشاطات مدنية. وفي غياب مؤسّسات المشاركة بين الدولة والمواطنين ساد الاعتقاد الباطل بسهولة حكم الملايين وانخفض مستوي الحوار بين الحاكم والمحكوم. وبين أنّات الظلم، وتحرير الاقتصاد في أي شكل كان، سواء علي صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية، ينام الاستقرار السطحي والظاهري، وأرقام النموّ الاقتصادي علي ألغام لاتدري ولا حتّي الأجهزة الأمنية الضخمة متي تنفجر؟ انتبهوا واحذروا لحظة الظلم! ليست المعارضة السياسية، ولا الإسلامية ولا المدنية، هي التي زعزعت أركان نظام زين العابدين. من الواضح إنّها التكلفة الإنسانية لغياب الحياة السياسية والفكرية والمعنوية لشعب كامل. صودرت إرادته وأفسد وعيه. وحلّت عري أحزابه بما سمح للنخب كلّها بما فيها الحاكمة أن تتصرّف به، حسب ما تريد وكيف ما تشاء. ومن الطبيعي ألا تشعر مثل هذه النخب التي نسيت دورها تماما، وتشاغل الكثير منها بجمع الثروة والمال، لا بمشاكل الناس ولا بمعاناتهم، ولا أن تعاين تفاقم الظلم الاجتماعي، الناجم عن التفاوت الصارخ في توزيع الثروة بين فئات المجتمع. شخص واحد عاقل في بلديةّ سيدي بوزيد كان سيعطي عربة بيع الخضار لبو عزيز، فلاتحدث الانتفاضة !لكنّ أمثال بوعزيز ومحمّد الدرّة ،ضرورات تاريخية لإقحامنا علي ما حولنا ونحن ننشد حلّ معادلة الخبز والحرّية.