لسنوات طويلة ظلت الصورة مخزونة بالذاكرة، تعلن حضورها بشكل لا إرادى فى حالة مشابهتها لحدث جديد، أو ذكر لعلاقة الزعيم بالغرب، على سبيل المثال عندما تم استبعاد وزير الدفاع المصرى عبد الفتاح السيسى من سباق شخصية العام 2013 بالرغم من فوزه باللقب فى استفتاء الموقع الإلكترونى لمجلة «تايم» الأمريكية، وهو ما يتيح له تَصدُّر غلاف المجلة فى إصدارها الورقى كإجراء معتاد ، جاء قرار الاستبعاد من جانب المسئولين عن «تايم» يؤكد ما هو راسخ فى ذهن المصريين عن تآمر الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام التى تدور فى فلكها ضد مصر، وقد ذكرت صحيفة أمريكية هى: «وول ستريت جورنال» شىء من هذا القبيل أيضًا. واقعة السيسى فى وقتها أعادت إلى ذاكرتى تلك الصورة المختزنة لغلاف المجلة الأمريكية «تايم» وقد صادفت هذا الغلاف قبل ذلك بسنوات، يحمل رسمًا للزعيم المصرى الراحل جمال عبد الناصر، ومرة أخرى عادت الصورة نشطة فى الذاكرة خلال الأيام القليلة الماضية مع ذكرى ثورة يوليو لتدفعنى للبحث مجددًا عن غلاف «تايم» الذى حمل صورة الزعيم، ليسفر البحث عن اكتشاف مثير وهو أنه لم يكن غلافًا واحدًا ولكن ستة أغلفة نشرت على مدار حوالى 16 عامًا ولخّصت علاقة عبد الناصر أو ناصر كما يسميه الأمريكان بالغرب. (1) يقول الخبراء إن هناك 6 شبكات إعلامية تحكم العالم، واحدة من أكبر هذه الشبكات إن لم تكن أكبرها على الإطلاق هى شبكة «تايم وارنر Time Warner» التى تملك مجموعة من شبكات أو شركات الميديا، من هذه الشركات مجموعة تايم للنشر «Time inc» وأشهر إصدارات هذه الشركة مجلة «Time» الورقية الإخبارية الأسبوعية الأشهر عالميًا، والتى تهتم بالأخبار والسياسة ويصنفها خبراء الإعلام أنها ومثيلتها الأمريكية مجلة «نيوزويك Newsweek» تأتيان فى المرتبة الثانية بعد مجلة «إيكونوميست Econmest» من حيث التوزيع وحرص النخبة الأمريكية على قراءتها ومتابعتها. قصة «تايم» المجلة نفسها قصة طويلة تعود إلى نهايات الربع الأول من القرن العشرين حيث صدر عددها الأول فى 3 مارس 1923 مجسدًا لحلم شابين أمريكيين اشتركا فى إصدار صحيفة جامعية خلال سنوات الدراسة العليا، الشابان هما هنرى لويس، وبيرتون هادن خريجا جامعة ييل العريقة، وقد آثارهما وآلمهما كثيرًا تورط الولاياتالمتحدة فى الحرب العالمية الأولى وألهمهما هذا الألم - على مستوى الشعور والفكر - إصدار مطبوعة صحفية عامة تخاطب الوعى الأمريكى وتعبر عن طموحات الأمة الأمريكية الطامحة للمجد الإمبراطورى وتوجهاتها.. هذه هى الأفكار النبيلة الأولى التى قادت لإصدار مجلة تايم ولا تسأل بعد ذلك عن أى انحرافات قد أصابت هذه النبالة عندما يتعلق الأمر بالصحافة وعلاقتها بالسلطة والمال الذى يمولها وبالأفكار والأيديولوجيات التى توجهها فهذه مسألة أخرى. (2) وعندما ظهر جمال عبد الناصر على مسرح الأحداث فى مصر وقاد ثورة للتغيير على مستويات عديدة كان قد مر ما يزيد على ربع القرن على صدور «تايم» ورحيل أحد مؤسسيها «بيرتون هايدن» وتولى آخرون المسئولية، وتدخلت عوامل كثيرة ومعقدة فى وضع السياسة التحريرية للمجلة، لكن الذى لا شك فيه هو أن المجلة «تايم» كانت قد أصبحت أحد أهم وسائل الإعلام المقروءة فى الولاياتالمتحدة، وكانت الأخيرة قد وضعت أقدامها وخطت خطواتها الأولى فى منطقة الشرق الأوسط خلفًا للإمبراطورية البريطانية التى كانت شمسها قد دخلت بالفعل فى طور الغروب، أما هذا الحضور والاهتمام الأمريكى بالشرق الأوسط ومصر تحديدًا فقد تأكدا بعد 4 سنوات من قيام ثورة 23 يوليو إبان العدوان الثلاثى الذى وقع على مصر عام 1956 عندما تدخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتى ووجها إنذارًا مشتركًا حمل تهديدًا وحدد مهلة للدول الثلاث المعتدية (انجلترا وفرنسا وإسرائيل) لوقف العدوان والانسحاب، وتمت الاستجابة للإنذار ونفذت الدول الثلاث ما طُلب منها فكان ذلك بمثابة إعلانًا عالميًا على حضور قطبين عالميين جديدين لن يلبثا أن يتنازعا فى السنوات التالية الهيمنة والنفوذ وصراع نشر الأيديولوجيات فى منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها مصر. (3) حركة الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو من عام 1952 ونجاحها فى الاستيلاء السريع على مقاليد الحكم فى مصر والإطاحة بالملك ونظامه فى أيام قليلة، كانت بمثابة مفاجأة للإدارة الأمريكية وجهاز مخابراتها الأشهر وكالة المخابرات المركزية (CIA) كما نصت على ذلك الوثائق الرسمية للوكالة والتى نشر بعضها الكاتب الصحفى الأمريكى «تيم وارنر» فى كتابه المنشور 2009 «إرث من الرماد.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية». وقد دحضت هذه الوثائق – بما لا يدع أى مجال للشك – تراث التحريض على اغتيال نزاهة عبدالناصر الوطنية وقد أسس لهذا التراث كاتب أمريكى هو «مايلز كوبلاند» صاحب الكتاب الشهير «لعبة الأمم» والذى أوحى فى كتابه هذا بأن هناك صلة ما ربطت بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجمال عبدالناصر، ومن ثم تلوين ثورة 23 يوليو بلون أمريكا ووصمها بسلوك وكالة المخابرات المركزية القذر حول العالم.. وكتاب مثل هذا كان لابد أن يتحول إلى مرجع مقدس لأعداء عبد الناصر، ولم يثنى هؤلاء فضح محمد حسنين هيكل ل «كوبلاند» وكتابه «لعبة الأمم»، ولا حشر أفواههم الحجر الذى ألقمهم إياه كتاب «وارنر» الصادر عام 2009، اعتمادًا على وثائق رسمية مفرج عنها من جهة وكالة الاستخبارات. (4) أرانى وقد ابتعدت قليلا عن صورة الزعيم التى حملتها أغلفة مجلة «تايم» الست، وهى فى رأيىّ تلخص مسار علاقة يحتاج سرد وقائعها عدة كتب، فكيف يسعها مقال؟!. .. المرة الأولى التى ظهر فيها عبد الناصر على غلاف «تايم» كانت بتاريخ 26 سبتمبر 1955 وظهر فى الصورة المرسومة على الغلاف الثائر الشاب فى زيه الميرى وخلفه حائط منحوت عليه نقوش فرعونية تختزل حضارة مصر وشعبها، أما المرة الأخيرة التى ظهر فيها عبد الناصر على غلاف «تايم» فكان بتاريخ 12 أكتوبر 1970 بعد أسبوعين من رحيله تقريبًا وقد ظهرت صورته دخل رسم الهلال يقع خلف هلال آخر يتَصدّر الغلاف.. هلالا جديد لا يظهر فيه أحد، وما بين الغلافين الأول والأخير كانت هناك أربعة أغلفة أخرى بينما نشرت المجلة فى داخلها موضوعات الأغلفة «cover story» عن عبدالناصر ومصر تروى أحداثا وتنقل آراء تعكس توجه المجلة الذى هو بلاشك يمثل توجه صانع القرار الأمريكى والأفكار الشائعة فى هذه البقعة من العالم فى زمن النشر وعكست المشاعر المتباينة تجاه مصر وقائدها ناصر (كما كان يسمى فى الغرب)، منذ ظهوره الأول ضابط شاب وقائد ثورى ثم رئيسا قرر أن يتحدى الغرب بقرار تأميم قناة السويس، فزعيما وطنيا يقود حركات التحرر فى أفريقيا والعالم حاولت أمريكا عبر وكالة المخابرات المركزية النفاذ إليه أو شرائه تمهيدًا للسيطرة عليه وتوجيهه لخدمة مصالحها فى مصر والمنطقة العربية لكن الوكالة ورجالها فشلوا، وانفضحت محاولاتهم، وما كان فشلهم إلا بمثابة هزيمة من مصر الثورة التى قررت أن تخوض حرب بلا هوادة ضد الظلم فى الداخل، وضد قوى الشر فى الخارج، وعلى رأسها قوى الإمبريالية الغربية التى زرعت إسرائيل فى فلسطين وأولتها رعايتها ودعمها الدائمين ومازالت تقدم أمن إسرائيل ومصالحها على أمنها ومصالحها، ولا تريد لمصر أن تملك إراداتها الكاملة عبر حاكم وطنى قوى بعيد عن هيمنتها، هى قصة معادة ومكررة لكنها للأسف تسقط كثيرا من ذاكرتنا.