محمد نجيب وبجواره كيرميت روزفلت مسئول الشرق الأوسط بالمخابرات الأمريكية عاصر الرئيس جمال عبدالناصر خلال فترة حكمه التي امتدت 81 عاما أربعة وزراء خارجية أمريكيين.. كما عاصر ثمانية سفراء أمريكيين. وقد كتبت عشرات الكتب ورسائل الدكتوراه والماجستير عن العلاقات بين مصر وأمريكا خلال سنوات الرئيس جمال عبدالناصر.. لكن لم يكتب جمال عبدالناصر غير كتاب واحد، وهو كتاب صغير، وصدر في بداية الثورة: (فلسفة الثورة) الذي صاغه محمد حسنين هيكل.. كتب فيه عبدالناصر كثيرا عن بريطانيا التي استعمرت مصر مايزيد عن سبعين عاما، واحتفظت بقاعدة عسكرية في قناة السويس، وسيطرت علي النظام الملكي.. كتب عبدالناصر عن غضبه علي بريطانيا منذ أن كان صغيرا.. وكتب: »عندما كنت صغيرا، حينما أري الطائرات في السماء، كنت أصيح: »يا ربنا يا عزيز، داهية تأخذ الإنجليز«.. لكن ليست في الكتابة إشارة إلي الأمريكيين. وهم، طبعا - خلال السنوات التالية - حلوا محل البريطانيين في الشرق الأوسط. وتوترت علاقتهم مع عبدالناصر.. خاصة بسبب تأييدهم القوي لإسرائيل. وفي هذه الدراسة التي نرصدها للكاتب والمحلل السياسي الأمريكي محمد علي صالح (من أصل سوداني الذي عاش في أمريكا أكثر من أربعين عاما واكتسب الجنسية الأمريكية وعمل مراسلا من واشنطن لصحف ومجلات رئيسية في الشرق الأوسط) محاولة لمعرفة ماكان سيكتب جمال عبدالناصر عن علاقاته مع أمريكا إذا كتب مذكراته قبل وفاته فجأة سنة 0791. هذا بحث في شخصيته عبدالناصر، وفي رأيه الحقيقي في أمريكا، ليس من خطبه الحماسية، ولكن من اجتماعاته السرية مع كبار المسئولين الأمريكيين، وخاصة سفراء أمريكا في القاهرة، الذين تعاقبوا خلال قرابة عشرين عاما (2591 - 0791). عاصر عبدالناصر ثمانية سفراء لأمريكا في القاهرة.. وقابل عددا كبيرا من مبعوثي الرؤساء الأمريكيين، وسجل عدد كبير منهم ماقاله لهم عبدالناصر. وسجلوا، أيضا، بعض تصرفاته، ومزاحه، وغضبه، وسعادته، ومرضه، وعندما كاد يبكي بعد هزيمة 7691. وثائق أمريكية طبعا، هذه وثائق أمريكية من منطلق أمريكي، لكن ربما هي الأقرب إلي معرفة شخصية عبدالناصر.. لأنها: أولا: آراء أجنبية، بالمقارنة مع ماكتب مصريون وعرب تأثروا بعوامل داخلية، وأهداف شخصية. ثانيا: آراء رسمية، بدون وضع اعتبارات شخصية، وفيها محاسبات ومراجعات، وعليها اعتمدت السياسة الأمريكية. ثالثا: آراء واقعية، بالمقارنة مع جهل كبير من واضعي السياسة الأمريكية في واشنطن. من أهم الكتب التي صدرت في أمريكا عن عبدالناصر: أولا: سنة 9691: (لعبة الأمم) تأليف مايلز كوبلاند عميل في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). ثانيا: سنة 0791: »مصر تحت ناصر: دراسة في الديناميكيات السياسية« تأليف ريتشارد ديكميجيان، أستاذ في جامعة جنوب كاليفورينا في لوس انجلوس. ثالثا : سنة 0791: »ناصر« تأليف أنتوني ناتنج الوزير البريطاني الذي فاوض عبدالناصر حول الجلاء عن القاعدة البريطانية (5491).. ثم استقال احتجاجا علي اشتراك بريطانيا في العدوان الثلاثي ضد مصر (6591). رابعا: سنة 2791: »ناصر.. سيرة سياسية« تأليف روبرت ستيفز، مراسل صحيفة »أوبزيرفر« في الشرق الأوسط. خامسا: سنة 3791: »وثائق القاهرة: القصة الخفية لناصر وعلاقته مع قادة العالم، والثوار، والحكام« تأليف محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير »الأهرام« في ذلك الوقت، وصديق ناصر المقرب. سادسا: سنة 8791: »البحث عن الذات«.. السيرة الذاتية للرئيس أنور السادات. سابعا: سنة 4002: »ناصر .. آخر العرب«.. سعيد أبو ريش.. صحفي فلسطيني. لعبة الأمم غير أن أهم كتاب عن علاقة ناصر مع أمريكا هو الكتاب الأول »لعبة الأمم« الذي أصدره عميل »سي آي إيه« مايلز كوبلاند.. فقد عمل مع عبد الناصر جاسوسا من وكالة الاستخبارات المركزية (2591 - 5591)، ثم كمسئول في مكتب تخطيط سياسة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية (5591 - 7591).. لكنه عمل ذلك تحت غطاء عمله الحقيقي، وهو أنه كان محاميا، وكان يعمل في مكتب محاماة كبير ومشهور (حتي اليوم) في واشنطن (بوزالين هاملتون).. ذهب كوبلاند أولا إلي دمشق، حيث فتح مكتب محاماة واستشارات قانونية.. وتقرب سريعا إلي الرئيس السوري شكري القوتلي في بداية الخمسينات.. ثم انتقل إلي القاهرة، وتعاون في البداية مع »كيرميت روزفلت«، الذي كان حقيقة جاسوسا كبيرا في الاستخبارات الأمريكية، واشترك في مؤامرة إسقاط حكومة محمد مصدق الليبرالية في إيران، وإعادة شاه إيران إلي الحكم. لهذا كانت نشاطات »كوبلاند« خليطا من استشارات وتجسس. ومن المعلوم أن أسرارا مثيرة كانت بين عبدالناصر والاستخبارات الأمريكية، قبيل، وبعد ثورة 2591.. وقد استغل أعداء عبدالناصر الكتاب، وقالوا أن ناصر كان عميلا للمخابرات الأمريكية. وهناك ملاحظات يسجلها محمد علي صالح علي كتاب »لعبة الأمم«.. وهي ذات جانبين: في جانب، نعم، في الكتاب أسرار مثيرة عن علاقة عبدالناصر مع المخابرات الأمريكية.. وعن علاقة آخرين مع المخابرات الأمريكية، مثل هيكل، ومصطفي أمين، أستاذه ورئيس تحرير صحيفة »أخبار اليوم«، وزكريا محيي الدين، نائب عبدالناصر و»رجل أمريكا«.. في الجانب الآخر وبعد قرابة أربعين سنة في أمريكا - وبعد هجوم 11 سبتمبر سنة 1002، وبعد بداية ما يسميها الأمريكيون »الحرب ضد الإرهاب«، والتي أراها حربا غير مباشرة ضد المسلمين (إن لم يكن ضد الإسلام)، وجدت في الكتاب كثيرا من الاستعلاء الأمريكي. استعلاء.. وإساءات وجدت استعلاء.. ووجدت إساءات. وجدت إساءات.. مثل هذه عن اللواء محمد نجيب قائد ثورة 2591، الذي اختلف في وقت لاحق مع ناصر، وعزله ناصر.. تقول الوثائق الأمريكية: »نجيب شرير في سعادة.. يبدو فاسدا في قدسية.. لكنه يبتسم في دفء.. أنه أحسن أب للمصريين«. ووجدت استعلاء مثل هذا عن عبدالناصر.. تقول الوثائق: »تحت رعايتنا، قرر ناصر..« و»شاور ناصر مساعديه والسياسيين، ثم نقل قراره إلي أصدقائه الأمريكيين الذين صفقوا له..«.. و»اجتمع مع ناصر ليعرف قدرة فهم ناصر للوضع المصري«. وجدت تشجيعا لناصر ليكون حاكما ديكتاتوريا.. ليكون - كما تذكر الوثائق: »رجلنا القوي في المنطقة«.. وقرأت عن خبراء أرسلتهم المخابرات الأمريكية ليعلموا ناصر كيف يحكم بالقوة حسب نظريات وفلسفات، مثل عنوان تقرير رفعوه إلي ناصر: »مشاكل القوة للحكومة الثورية«.. بل إن المخابرات الأمريكية دربت المخابرات العامة المصرية اعتمادا علي الوسائل الأمريكية لهندسة الإدارة.. هذه عبارة غامضة، لكن معناها واضح. اختلاف جذري ووجدت مشكلة أساسية بين ناصر و»أصدقائه« الأمريكيين تظل مستمرة حتي يومنا هذا.. بين الأمريكيين والعرب، أصدقاء أو أعداء: اختلاف جذري في طريقة التفكير.. وجدت، قبل وبعد ذلك، أن هذه مشكلة أساسية بالنسبة لي بعد أربعين سنة تقريبا في أمريكا: اختلاف جذري في طريقة تفكيري وطريقة تفكير الأمريكيين، حتي زوجتي وابني وابنتي.. فما بالك بمقابلة ساعة أو ساعة ونصف بين سياسي (سياسي، لا مواطن أمريكي عادي)، وحاكم عربي ربما حتي لم يزر أمريكا.. مثلا: خلال عشاء في منزل ناصر، تندر خبير أمريكي علي ثوار »ماوماو« في كينيا، وقال إنه كان الأبيض الوحيد وسطهم.. ولم يفهم ناصر، وغضب، وكاد أن يطرده من منزله. مثلا: تجادل ناصر وإريك جونستون (مبعوث الرئيس ايزنهاور لتقسيم مياه نهر الأردن بين العرب وإسرائيل) خلال عشاء في منزل ناصر.. قال جونستون إن ناصر يجب ألا يستمع لآراء الشعب المصري.. ويجب أن يقوده.. ورد ناصر بأنه لابد أن ينفذ رغبات الشعب المصري.. ورد جونستون غاضبا، وفي تهكم وهو يخرج من منزل عبدالناصر: »الرعاع في الشارع، لابد أن أقودهم«. في نهاية الكتاب فصل كامل عن »الناصرية والإرهاب« وفيه اتهامات مفصلة لعبد الناصر بأنه »إرهابي« لأنه كان يساعد »منظمات إرهابية« مثل حركات المقاومة في عدن ضد الاحتلال البريطاني، وفي فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي. في اختصار، وجدت كتاب »لعبة الأمم« رغم الضجة الكبيرة عندما نشر، ويستمر بعضها، فيه قليل من المعلومات السرية، وكثير من النظريات والفلسفات والمعلومات الموجودة في مصادر أخري. تعكس هذه النظريات والفلسفات ليس فقط رأي كاتب الكتاب، ولكن التفكير العام نحو ناصر، ونحو قادة عرب أمثاله، بل ربما نحو كل القادة العرب وهو كما قلت: أولا: تفكير مختلف جدا عن تفكير العرب والمسلمين »وربما كل الشرقيين«. ثانيا: تفكير استعلائي، إن لم يكن عدائيا.. من »إرهاب« ناصر حتي »إرهاب« المسلمين بعد هجوم 11 سبتمبر سنة 1002. يوجد كتاب رئيسي آخر طبع في أمريكا عن ناصر، هو (كايرو دوكيومنتز) (وثائق القاهرة) الذي كتبه محمد حسنين هيكل. ولاحظت أن كوبلاند وهيكل وناصر تعاونوا قبيل، وبعد ثورة 2591.. وبعد عشرين سنة تقريبا، كتب كل من كوبلاند وهيكل كتابه عن ناصر.. كتب هيكل عن ناصر وكوبلاند.. وكتب كوبلاند عن ناصر وهيكل.. ولسوء الحظ وطبعا القدر لم يكتب عبدالناصر كتابه.