قالها عميد الأدب العربى طه حسين.. ردًا على هؤلاء الذين ينظرون إلى اللغة العربية على أنها لغة غير عصرية.. وأنها لا تصلح أن تقدم إلى قارئ اليوم.. يقول طه حسين (لغتنا العربية يسر لا عسر.. ولنا أن نضيف إليها ألفاظا لم تكن تستخدم فى (العصر القديم). إن سعة أفق طه حسين تقف بنا أمام سحر هذه اللغة.. وتؤكد أنها مثل الكائن الحى تنمو وتتطور.. وهى ملكنا ولنا أن نضيف إليها ما لم يكن مستخدمًا فى العصر القدبم.. ومن ثم فهى تملك أن تكون لغة عصرية تخاطب الأطفال والشباب والكبار دون أن يجدوا فيها صعوبة.. إذن ما المشكلة التى يدعيها البعض.؟ المشكلة فى تصورنا تكمن فى هؤلاء البعض.. وليست فى اللغة.. فاللغة العربية لغة ثرية بالمفردات والمترادفات وتتراوح بين البساطة والتعقيد.. ولهذا فالقابض على هذه اللغة يستطيع بكل بساطة أن يختار المستوى المناسب منها لأى مرحلة عقلية بلا صعوبة.المهم أن يكون عارفا بأسرار هذه اللغة.. المشكلة إذن نبتعد عن اللغة التى هى قوام هويتنا العربية وثقافتنا العربية.. وهذا القوام مرن يمتص كل جديد.. ويجعله من مكوناتها.. ويمكننا أن نلاحظ ذلك فى المعاجم اللغوية فترى مثلًا لفظًا معربًا -أى دخل إلى العربية ونطق بها- ولفظًا دخيلًا ينطق بلغته الأصلية.. وهذه الألفاظ توجد فى كل المعاجم وأهمها المعجم الوسيط والمعجم الكبير اللذان صدرا عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة.. إذن فهذه لغتنا اليسر التى يتهمها البعض أنها لغة متخلفة لا تناسب العصر.. تستوعب وتهضم وتمتص كل المفردات التى ترد إليها من اللغات الأخرى -مثل أى لغة-. ولأن اللغة تمثل وعاء الثقافة لدى أية أمة.. فاللغة العربية تمثل وعاء الثقافة العربية ولقد أكد العقاد فى كتابه (الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين) أن الثقافة العربية أقدم تاريخًا.. فالأبجدية اليونانية عربية بحروفها.. وبمعانى تلك الحروف وأشكالها.. وسفر التكوين وسفر الخروج صريحان فى تعليم الصالحين من العرب لكل من إبراهيم وموسى عليه السلام.. وقد أشاع الأوروبيون فى عصر ثقافتهم وسلطانهم أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم والحكمة.. وتوهموا أم العبرائيين سبقوا العرب إلى الدين والثقافة الدينية مع أن كتابهم صحيح فى حداثة إسرائيل وحداثة إبراهيم من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية هكذا يؤكد العقاد عراقة الثقافة العربية ولغتها التى حملتها إلى العالم.. وسبقت بها ثقافات اليونان والعبريين.. والسؤال اليوم أين الإعلام من لغتنا وهويتنا..؟ إن وسائل الإعلام تتميز بالقدرة على الاتصال بالجماهير.. ومن ثم فإن العلاقة بين هذه الوسائل والثقافة تجسدها اللغة تجسيدًا عمليًا.. فالثقافة تنعكس فى الكلام واللغة.. بحيث يذهب بعض الكتاب إلى القول بأن كل ما يظهر فى لغة المجتمع من نقص أو قصور أو ابتذال هو دليل على مدى تخلف هذا المجتمع فى ركب الحضارة والتقدم.. وهنا ينبغى أن ندرك أهمية لغتنا التى تجمع عناصر الثقافة والتاريخ والحضارة والاتصال. ولا يجوز أن نكون أقل من غيرنا من الشعوب التى تقدس لغاتها وتأبى أن يهون شأنها أو ينحدر لأى سبب. فالوعى بالهوية والقومية دفع فرنسا مثلًا إلى تنقية لغتها من التلوث اللغوى الذى أصابها من مفردات الإنجليزية.. حيث أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1994 نصا فى قانون حماية اللغة يقول (يحظر انعقاد المؤتمرات العلمية التى تتخذ الإنجليزية لغة للتداول) وتدخل برلمانها لحماية اللغة الفرنسية حينما وضع قائمة سوداء للمفردات التى يحظر استخدامها فى الإعلانات والمدارس ووسائل الإعلام.. وبهذا استطاعت فرنسا أن تحافظ على لغتها القومية. وكما فعلت فرنسا فعلت انجلترا حينما حرصت على تنقية لغتها مما اصابها من الإنجليزية الأمريكية. كما أن اللغة العبرية الحديثة لم تحقق ما حققته من مكانة لتصبح اللغة الوطنية لإسرائيل إلا نتيجة الشعور المتنامى الذى أحيا لغة اليهود بعد زمن طويل من الهجر والإهمال حتى صارت لغة عالمية على ألسنة الساسة الإسرائيليين. أما الصينيون فقد أعادوا النظر فى لغتهم وأبعدوا عنها ما لا يقبل وتواصلوا مع العالم. ويبدو أن الإعلام مسئول مسئولية مباشرة عن نشر اللغة بيم المتلقين.. لأنه يخاطب العقل والوجدان معا.. ولا ينبغى أن يفهم القارئ أننا ضد العامية التى تمثل الحديث اليومى بين الناس لكن الأمر يتعلق بالاهتمام بلغتنا فى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية باعتبارها مؤثرة تأثيرًا كبيرًا فى ثقافة الناس.. فمن غير المعقول أن تختفى من هذه الوسائل البرامج الثقافية الشائقة التى يقبل عليها المتلقى ليستمتع بلغته الجميلة والموضوعات التى تغذى عقله ووجدانه.. وما هو المغزى وراء استخدام المفردات والمصطلحات غير العربية التى تطلق على الفضائيات والبرامج مثل: نايل فاميلى، نايل سبورت، نايل نيوز، دريم، o.t.v، l.b.c، توك شو، راديو شات، وغيرها من المصطلحات التى يمكن أن تعبر عنها اللغة العربية ببساطة وجمال.. وأتذكر أن الإذاعة فى وقت سابق بعيد قامت بانتاج عدد من الأغنيات القصيرة المكتوبة بالفصحى تحت عنوان (مختارات الإذاعة) حيث قامت لجنة من الشعراء والنقاد باختيار أجمل القصائد من دواوين الشعراء وقام بتلحينها كبار الموسيقيين وقام بأدائها عدد من المطربين وكانت تجربة فريدة ثم توقف هذا المشروع بلا سبب.. وصار كل ما سجل منه حبيس أرشيف الإذاعة.. فقد طغت الأغانى الحديثة التى تخاطب الغرائز على أى قيم فنية أخرى.. وها نحن للأسف نجد الشغف الجنوبى فى الإعلانات التى تستخدم اللغة والصورة أو تبث من خلال الإذاعة أو نجدها فى لافتات المحلات.. تنحاز إلى اللغة الأجنبية بالرغم من وجود قانون فى مجمع اللغة العربية يلزم مؤسسات الدولة كلها باستخدام اللغة العربية.. لكنه قانون لا يفعّل ويظل حبرًا على ورق. متى إذن تصبح لدينا الإرادة القوية فنغار على لغتنا الجميلة ونفعّل القانون ونؤمن بأهمية الهوية التى تمثل اللغة ركيزة أساسية من ركائزها.. ولا ننتظر حتى يضيع من أيدينا أهم مكتسباتنا الثقافية!. يقول حافظ إبراهيم عن اللغة العربية: أنا البحرُ فى أحشائه الدر كامنَُ فهل سألوا الغواص عن صدافاتى أيهجرنى قومى عفا الله عنهُم