رئيس مجلس الشيوخ يلتقي وزير العدل    "التموين" يستمع لمطالب شعبة المخابر.. ويطمئن على سير العمل    رئيس الوزراء يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمشروع "رأس الحكمة"    آخر مهلة لسداد فاتورة التليفون الأرضي لشهر أكتوبر 2025.. خطوات الاستعلام والسداد والغرامات بالتفصيل    محافظ مطروح يتفقد مركز التدريب المدني.. ويؤكد الإعلان عن دورات تدريبية قريبا    جيش الاحتلال: علينا زيادة الخدمة الإلزامية إلى 36 شهرا    إعصار فونج-وونج يصل إلى مقاطعة أورورا شمال شرقى الفلبين    انتهاء عملية التصويت الخاص وإغلاق المراكز الانتخابية في العراق    حسام وإبراهيم حسن يتواجدان في مباراة الأهلي والزمالك بنهائي السوبر    مصرع 4 أشخاص وإصابة 3 آخرين في انقلاب سيارة ملاكي من أعلى معدية ببني سويف    وزارة الداخلية: خطة أمنية متكاملة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025.. صور    محمد المزيودي يكشف للستات مايعرفوش يكدبوا تفاصيل فكرة استعادة الآثار المهربة    محافظ المنيا يكرم الأبطال المتميزين رياضيا من ذوى الهمم    أبرز ملفات الشرع في واشنطن.. «قانون قيصر» و«التعاون الدفاعي» يتصدران أجندة المباحثات    بالتسابيح والإلحان.. بدء أنطلاق فعاليات اليوم الأول لإحتفالات دير مارجرجس بالرزيقات غرب الأقصر    وزيرة التضامن تعلن عن دعم مستشفى شفاء الأورمان بالأقصر ب10 ملايين جنيه    الفريق البحثى لكلية الطب بالقوات المسلحة يحصد الميدالية الذهبية في المسابقة العالمية للهندسة الوراثية    «الداخلية»: ضبط صانعة محتوى رقصت بملابس خادشة على وسائل التواصل الإجماعي    «الداخلية» تكشف حقيقة فيديو «أطفال بلا مأوى» بالشرقية.. الأم تركتهم أثناء التسول    العثور على جثة شخص بها طلقات نارية في قنا    المستشارة أمل عمار تدعو سيدات مصر للمشاركة بقوة في انتخابات مجلس النواب 2025    وزير الثقافة يلتقي نظيره القطري لمناقشة عدد من المشروعات الثقافية    وزير الصحة يبحث مع ممثلي «الصحة العالمية» تعزيز جهود مواجهة الكوارث والطوارئ    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    محافظ قنا يترأس اجتماع لجنة استرداد أراضي الدولة لمتابعة جهود التقنين وتوحيد الإجراءات    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    موفدو الأوقاف بالخارج يبادرون لأداء واجبهم الوطني في انتخابات مجلس النواب بمقار السفارات والقنصليات المصرية بالخارج    رئيس منتدى مصر للإعلام تستقبل رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام    «تنتظره على أحر من الجمر».. 3 أبراج تقع في غرام الشتاء    سمير عمر رئيس قطاع الأخبار بالشركة المتحدة يشارك في ندوات منتدى مصر للإعلام    تحسين الأسطل : الأوضاع في قطاع غزة ما زالت تشهد خروقات متكررة    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    ما حكم الخروج من الصلاة للذهاب إلى الحمام؟ (الإفتاء تفسر)    استلام 790 شجرة تمهيداً لزراعتها بمختلف مراكز ومدن الشرقية    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    «زي كولر».. شوبير يعلق على أسلوب توروب مع الأهلي قبل قمة الزمالك    التنسيقية: إقبال كثيف في دول الخليج العربي على التصويت في النواب    أهم 10 معلومات عن حفل The Grand Ball الملكي بعد إقامته في قصر عابدين    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    الأوقاف توضح ديانة المصريين القدماء: فيهم أنبياء ومؤمنون وليسوا عبدة أوثان    تأجيل محاكمة 10 متهمين بخلية التجمع لجلسة 29 ديسمبر    «كفاية كوباية قهوة وشاي واحدة».. مشروبات ممنوعة لمرضى ضغط الدم    مئات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى والاحتلال يواصل الاعتقالات في الضفة الغربية    وفاة الكاتب مصطفى نصر بعد تعرضه لأزمة صحية مفاجئة    قافلة «زاد العزة» ال 68 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    التشكيل المتوقع للزمالك أمام الأهلي في نهائي السوبر    أمين الفتوى: الصلاة بملابس البيت صحيحة بشرط ستر الجسد وعدم الشفافية    على خطى النبي.. رحلة روحانية تمتد من مكة إلى المدينة لإحياء معاني الهجرة    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    مواعيد مباريات الأحد 9 نوفمبر - نهائي السوبر المصري.. ومانشستر سيتي ضد ليفربول    طولان: محمد عبد الله في قائمة منتخب مصر الأولية لكأس العرب    «لعبت 3 مباريات».. شوبير يوجه رسالة لناصر ماهر بعد استبعاده من منتخب مصر    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    «الكلام اللي قولته يجهلنا.. هي دي ثقافتك؟».. أحمد بلال يفتح النار على خالد الغندور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد عبدالمعطى حجازى: القبطية لغتنا.. والعربية أيضا!
نشر في اليوم السابع يوم 16 - 11 - 2008

اعتبار القبطية لغة المسيحيين تعصبا والأشد منه إعتبار العربية لغة خاصة بالمسلمين
العقيدة القبطية تأثرت بالعقيدة الفرعونية.. والإسلامية تأثرت بهما معًا
المنطقة العربية موبوءة بالطغيان والمتاجرة بالدين والتستر وراءه لقهر العباد
حين ينكرون أن اللغة القبطية كانت لغة المصريين القومية فى العصور التى سبقت انتشار لغة الفاتحين العرب لا يثبتون إلا جهلهم واستعدادهم لإنكار الحقائق الثابتة إذا تعارضت مع أهدافهم وخططهم، ولا شك فى أن اللغة القبطية كانت لغة المصريين قبل أن تحل محلها اللغة العربية.
تابعت ما نشر فى الأيام الأخيرة حول المؤتمر الدولى للدراسات القبطية الذى انعقد أخيرا فى القاهرة.. وحزنت!
حزنت لأن ما نشر حول هذا المؤتمر الهام لم يقدم لنا ما كنا نحتاج لمعرفته وهو كثير، والاهتمام به لا يقتصر على المختصين، فالدراسات القبطية هى الدراسات المصرية، أو هى جانب أساسى منها، لأن موضوعنا هو ثقافة المصريين ولغتهم وتاريخهم خلال المرحلة الممتدة من دخول الإسكندر المقدونى مصر فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد إلى نهاية حكم الفاطميين فى أواخر القرن الثانى عشر بعد الميلاد، وهى ألف وخمسمائة عام على الأقل، إن كانت تهم المختصين من وجهة واحدة فهى تهم المصريين من وجهات كثيرة، وإذا كانت الدراسات القبطية تهم المسيحيين المصريين بالدرجة الأولى لأنها تتناول الثقافة المصرية فى عصورها المسيحية، فهى تهم المسلمين المصريين أيضا؛ لأن التاريخ المصرى ليس معسكرات طائفية، والحضارة المصرية فى كل عصورها تراث وطنى لا يمكن تقسيمه وتوزيعه على الشيع والنحل، وإذا كان المسلمون المصريون سيكتفون بالانتساب للعصر الذى صاروا فيه أغلبية، أى بالقرون العشرة الأخيرة من تاريخ مصر، والمسيحيون سيكتفون بالانتساب للعصر الذى كانوا فيه أغلبية، أى بالقرون العشرة التى سبقت، فمن ينتسب من المصريين لمصر التى لم تكن مسلمة ولم تكن مسيحية؟
من المؤسف أننا لانزال نجد اليوم مصريين يتعصبون للدين ويتطرفون إلى الحد الذى يتنكرون فيه للوطن ولتاريخه السابق على ظهور الديانة التى يتعصبون لها، وهم رغم هذا عالة على هذا التاريخ الذى يتنكرون له، فالسياح الأجانب الذين يقدمون إلى مصر بالملايين لا يجدون فى مصر ما يغريهم بزيارتها وإنفاق نقودهم فيها إلا ما تركه لنا أجدادنا الذين يتنكر لهم بعضنا الآن وهم يأكلون خبزا مدعوما بما حصلته الدولة من السياح الأجانب!
الدراسات القبطية إذن لا تهم العلماء المختصين فيها وحدهم، ولا تهم المسيحيين المصريين فحسب، وإنما تهمنا جميعا مسلمين ومسيحيين، مختصين وغير مختصين، مثلها مثل الدراسات الإسلامية والدراسات الفرعونية التى تتناول جوانب أخرى، فإذا كانت الصحف وأجهزة الإعلام قد قصرت تقصيرا معيبا فى تزويدنا بأخبار المؤتمر الذى عقد أخيرا حولها فى مصر، وبما قدم فى هذا المؤتمر من دراسات واكتشافات وما دار من مناقشات فهذا شىء محزن!
والصحف وأجهزة الإعلام ليست وحدها المقصرة، وإنما تشاركها الهيئات والمؤسسات المصرية والدولية التى شاركت فى تنظيم المؤتمر على هذا النحو الذى بدا وكأنه مغلق عليها، وكأن عامة المصريين لا حق لهم فى الاهتمام به ومتابعة ما يدور فيه، وهذا أيضاً شىء محزن!
ونحن نعلم أن الدراسات القبطية أصبحت تشغل الكثيرين من المهتمين بمصر وتاريخها منذ شرع شامبليون فى فك أسرار الحضارة المصرية القديمة؛ لأن العصر المسيحى فى مصر هو حلقة الوصل بين تاريخها القديم وتاريخها الحديث.
اللغة القبطية ليست إلا الطور الأخير من أطوار اللغة المصرية القديمة، ونحن الآن نفهم كلمة «قبطية» بمعنى مسيحية، وهذا ليس معناها الأصلى، وإنما هى مشتقة من عبارة مصرية قديمة مؤلفة من كلمات ثلاث تدل على مصر هى «حت - كا - بتاح» ومعناها بيت روح بتاح، أى مركز عبادة بتاح إله الفنانين، وهو مدينة منف العاصمة القديمة التى كانت مصر كلها تسمى باسمها، كما نقول مصر ونقصد البلد ونقصد القاهرة أيضا. وقد تحولت هذه العبارة المصرية فى الاستعمال اليونانى إلى كلمة واحدة هى «إيجبتوس» التى تحولت فى النطق العربى إلى «قبط»، والقبط إذن هم المصريون جميعا، لكن ارتباط الكلمة بمصر المسيحية حصر دلالتها فى الأقباط الذين ظلوا على دينهم الأول، وباعد بينها وبين الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام.
وكما أن اللغة القبطية هى اللغة المصرية فى طورها الأخير فالفنون القبطية طور جديد من أطوار الفنون المصرية القديمة مع بعض التأثيرات اليونانية.
ولا تخلو العقيدة القبطية ذاتها من بعض التأثيرات الفرعونية، يكفى أن تنظر فى الأيقونة القبطية التى تصور العذراء ترضع طفلها المسيح، وهو من مقتنيات المتحف القبطى لترى أنها هى تقريبا صورة إيزيس ترضع طفلها حورس، وهناك من يعتقد أن الشبه ليس فقط بين الصورتين، وإنما هو بين العقيدتين، فحورس هو ابن أوزوريس الذى نفخ فى إيزيس من روحه بعد أن قتل وانتقل إلى العالم الآخر، وكذلك كان المسيح الذى حملت به مريم من روح القدس.وكما تأثرت الثقافة القبطية بالثقافة الفرعونية تأثرت الثقافة الإسلامية فى مصر بالثقافة القبطية والثقافة الفرعونية.
اللغة العربية الدارجة التى يتكلمها المصريون مزيج من عناصر عربية ومصرية، وعمارة المسجد متأثرة بعمارة الكنيسة، والخزف الفاطمى امتداد للخزف القبطى، والتصوف الإسلامى متأثر بالتصوف المسيحى المصرى، وفى هذا يقول العلامة نيكولسون «إن ذا النون المصرى هو أحق رجال التصوف على الإطلاق بأن يطلق عليه اسم واضع أسس التصوف» وكان ذو النون الذى عاش فى النصف الأول من القرن الثالث الهجرى - التاسع الميلادى - يعرف اللغة القبطية فهى لغته القومية، وكان قادرا على قراءة النصوص الهيروغليفية كما جاء فى «أخبار العلماء بأخبار الحكماء» لابن القفطى الذى يقول «ذو النون بن إبراهيم الأخميمى المصرى من طبقة جابر بن حيان فى انتحال صناعة الكيمياء، وتقلد علم الباطن والإشراف على كثير من العلوم الفلسفية، وكان كثير الملازمة لبربا - أى آثار - بلده أخميم، فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة، وفيها التصاوير العجيبة والمثالات الغريبة التى تزيد المؤمن إيمانا والكافر طغيانا، ويقال إنه فتح عليه علم ما فيها بطريق الولاية».
هذا المكان الذى تمثله الدراسات القبطية اجتذب إليه علماء كثيرين من أنحاء العالم شكلوا فيما بينهم هيئة سموها الهيئة الدولية للدراسات القبطية التى تنظم مؤتمرا دوليا ينعقد كل أربع سنوات، وقد انعقد هذا المؤتمر فى دورته الأخيرة فى مصر، فإذا كانت الهيئة الدولية لا تدعو لحضور المؤتمر إلا المختصين، فقد كان من واجب المؤسسات المصرية المهتمة بالدراسات القبطية أن توسع دائرة الاهتمام بالمؤتمر وتدعو لحضوره المهتمين بالثقافة المصرية بصرف النظر عن تخصصاتهم الدقيقة وعن انتمائهم الدينى.
لقد بدا المؤتمر للبعض كما أشرت من قبل وكأن الدراسات القبطية لا تهم إلا الأقباط، وقد كان لهذا الإحساس ردود سلبية، إذ نظر بعضهم للمؤتمر من زاوية سياسية، وخاصة حين علم أن بعض العلماء الإسرائيليين المختصين فى الدراسات القبطية دعوا للمشاركة فيه، وهى دعوة لا دخل للمصريين المشاركين فى المؤتمر بها، واتخذ بعضهم بناء على هذه النظرة موقفا سلبيا لا من المؤتمر وحده، بل من الدراسات القبطية كلها، ومن اللغة القبطية بالذات.
فقد ذكرت بعض الصحف أن بعض الذين يقدمون أنفسهم للناس على أنهم دعاة إسلاميون حمل على اللغة القبطية وعلى من يعتبرونها اللغة الأم للمصريين، ووصفهم بأنهم كاذبون، وقال إن هناك من يلعب بورقة الأقليات، وإن اللغة القبطية خليط من لغات مختلفة!
طبعا.. هناك من يلعب بورقة الأقليات، لأن مصر المتحضرة التى تعتبر المصريين جميعا أبناءها، وتساوى بينهم أمام القانون، ولا ترفع طائفة على طائفة، ولا تميز بين دين ودين - مصر هذه العاقلة المستنيرة المؤمنة بحقوق الإنسان لا تعجب قوى كثيرة، وخاصة فى هذه المنطقة العربية الموبوءة بالطغيان الذى لا يتورع عن المتاجرة بالدين والتستر وراءه حتى يواصل سيرته فى قهر العباد وامتصاص دماء البلاد، مدعيا أنه يدافع عن الدين ويحارب أعداءه، فلابد من اختلاق صراع طائفى ينشغل به الناس وينصرفون عن المطالبة بحقوقهم ويمتثلون للطغيان ويجعلونه حكما بينهم وهو عدوهم اللدود.
هكذا يلعب اللاعبون بورقة الأقليات التى يحتاجون لمن يثيرها حتى يمكنهم أن يلعبوا بها، ومن المضحك أن يكون بعض الذين يستنكرون اللعب بورقة الأقليات أدوات فى أيدى من يلعبون بها، لأنهم لا يشنون هجومهم على إقحام الدين فى السياسة، وهو المناخ الذى يشجع على اللعب بورقة الأقليات، بل هم يروجون لدولة دينية جديدة ويترحمون على الدول الدينية البائدة، وبذلك يثيرون الفتنة التى ينبهون غيرهم لخطرها، لكن تطرف هؤلاء يعريهم ويفضحهم.
حين ينكرون أن اللغة القبطية كانت لغة المصريين القومية فى العصور التى سبقت انتشار لغة الفاتحين العرب لا يثبتون إلا جهلهم واستعدادهم لإنكار الحقائق الثابتة إذا تعارضت مع أهدافهم وخططهم، ولا شك فى أن اللغة القبطية كانت لغة المصريين قبل أن تحل محلها اللغة العربية.
هذه الحقيقة لا ينكرها إلا جاهل أو مزور، وكما أننا لا نتنكر للغتنا الأصلية التى كانت ركنا أساسيًا من أركان حضارتنا القديمة لا نخجل ولا نتبرأ من لغة الغزاة الفاتحين التى أصبحت لغتنا حين نطقنا بها، وفكرنا، وكتبنا، وأبدعنا، وأضفنا للأدب العربى ما لم يكن فيه.
لا نتنكر للغتنا القبطية كما لا يتنكر الأوروبيون للغات التى كانوا يتكلمونها قبل أن تنتشر فى بلادهم لغة الرومان الفاتحين التى صارت على ألسنة الفرنسيين لغة فرنسية، وعلى ألسنة الإسبان لغة إسبانية، وكما لا يتنكر الأفارقة واليهود الأمريكيون للغاتهم الأصلية التى كانوا ينطقون بها قبل أن تنتشر فى بلادهم الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية.
أما اتهام اللغات القبطية بأنها خليط من لغات مختلفة فكلام فارغ لا يستند لعلم أو منطق، لأن اللغة نظام لا يمكن خلطه بنظام آخر، يمكن أن تستعين اللغة بمفردات لغة أخرى تخضعها لطريقتها فى النطق، أما الأبنية الأساسية التى تقوم عليها اللغة فلا يمكن نقلها للغة أخرى، لا يمكن مثلاً أن تنشئ فى الفرنسية أو فى الإنجليزية جملة اسمية خالية من الفعل كما تفعل فى العربية التى يمكن أن تتألف فيها الجملة الاسمية من اسمين؛ مبتدأ أو خبر.
واللغة القبطية لم تكن لغة جديدة ولم تنشأ من فراغ، وإنما هى طور جديد من أطوار لغة عريقة تشكلت على مهل، وقامت عليها ثقافة باذخة، وظلت حية آلاف السنين، وتقول عالمة المصريات الإنجليزية بربارا واترسون في كتابها أقباط مصر إن اللغة القبطية التى كانت لهجة شعبية فى القرون السابقة على الميلاد «تحولت إلى لغة أدبية لها قواعد فى النحو والإملاء خاصة بها».
وهناك من يظن أن اللغة القبطية اختفت من الوجود فى أعقاب فتح العرب لمصر، والحقيقة ليست كذلك، فقد كان العرب الفاتحون يعدون بالآلاف، وكان المصريون يعدون بالملايين وقد ظل معظمهم يتكلم لغة آبائه وأجداده قرونًا عديدة بعد الفتح، وظلت القبطية لغة حية إلى أواخر القرن السادس عشر، فعندما دخل العثمانيون مصر كانت بعض القرى فى الصعيد لاتزال تتكلم القبطية.
واللغة القبطية لم تختف تمامًا بعد ذلك، وإنما تقمصت لغة الفاتحين العرب وحلت فيها فظهرت من اللغتين لغة ثالثة هى العامية المصرية التى تعتبر عربية من ناحية المفردات ومصرية من ناحية التراكيب التى يعود جانب كبير منها لأصول قبطية.
عندما تقول «انت مين؟» بدلاً من «من أنت؟» وعندما تقول «ما اقدرش» بدلاً من «لا أقدر» تسمى الأشياء كما سماها العرب، وتفكر فيها كما فكر المصريون. والعامية المصرية ليست الإنجاز الوحيد فى طريق تمصير العربية، الفصحى أيضًا تمصرت فى قصائد البهاء زهير، وحافظ إبراهيم، وصلاح عبدالصبور، وفى كتابات يحيى حقى، وحسين فوزى، وطه حسين.
حين يقول البهاء زهير:
إياك يدرى حديثًا بيننا أحدُُ
فهم يقولون للحيطانِ آذانُ!
أو حين يقول:
يا من تَجنَّن عامدا
وأريد أُذهِب جِنَّه
وكأنه كلبُُ عوى
لا بل أقول بأنَّهُ
فلأكوينَّ جبينَه
وسْمًا وأقطع أَذْنَهُ
وأكون كلبا مثله
إن لم أصدق ظنه
حين نقرأ هذا الشعر نجد فيه كلام المصريين وإشاراتهم وإيقاعاتهم وطرقهم فى التفكير والتعبير. وهذا أمر طبيعى، فكما تختلف عامية مصر عن عامية العراق وعامية المغرب، تختلف أيضًا -وإن بدرجة أقل - فصحى مصر عن فصحى المغرب والعراق والشام، لأننا لسنا مستشرقين نتكلم لغة أجنبية تعلمناها بالأمس، وإنما نتكلم ونكتب لغة أصبحت لغتنا، فنحن نتصرف فيها تصرف المالك الحر الراشد القادر على أن يأخذ ويترك ويضيف ويجدد.
واللغة ليست مجرد معجم نستعمله كما يستعمله غيرنا، وإنما هى إلى جانب ذلك تراكيب تعبر عن عقلية المتكلم وتعكس تصوره للعالم وإدراكه لما بين الأشياء والأفكار من علاقات. فإذا كانت العربية الفصحى لم تنشأ فى مصر وإنما دخلتها بعد أن استكملت قواعدها وأصبحت نظامًا يفرض نفسه على من يتكلمها، فقواعد اللغة ليست قيودًا حديدية وإلا تسببت فى موت اللغة، وإنما هى حددود مفتوحة وقوانين مرنة تساعد اللغة على أن تتجدد وتلبى حاجات الذين يتكلمونها وتتطور معهم.
ونحن نعرف أن العرب يؤثرون الجملة الفعلية على الجملة الاسمية على عكس الأوروبيين الذين لا يعرفون إلا الجملة الاسمية، ويبدو لى أن المصريين أقرب إلى الأوروبيين فى هذه المسألة، فالجملة الاسمية هى الأساس فى العامية المصرية، وهى تتردد بكثرة فى أعمال الكتاب المصريين وخاصة المعاصرين.
أقول فى النهاية: نعم! اللغة القبطية هى لغتنا الأم أو لغتنا الأصلية، لكنها أصبحت الآن لغة ميتة لا تستخدم إلا فى الصلاة مثلها مثل اللاتينية، فالذين يدعون لإحيائها واهمون، والذين يتبرأون منها متعصبون، فإذا كان موت القبطية يحول بيننا وبين استخدامها فى حياتنا اليومية ونشاطنا العقلى، فهو لا يحول بينا وبين دراستها، وليس مفهومًا أن يهتم العالم بالقبطية وأن نتجاهلها نحن وننساها، وإذا كنا ندرس السريانية والحبشية والسواحلية فى جامعاتنا، فالقبطية أحق بهذه العناية وأولى.
وأقول بعد ذلك: نعم! اللغة العربية هى فى الأصل لغة العرب الفاتحين، لكنها الآن لغتنا، وهى لغة حية نتعلمها ونتعلم بها، ونفكر بها ونعبر ونضيف إليها ما لم يكن فيها من قبل، وإذا كان من التعصب المقيت اعتبار القبطية لغة المسيحيين وحدهم، فأشد تعصبا وأشد مقتا أن تعتبر العربية لغة المسلمين!
فى الأصل كانت لهجة
ما معنى اللغة القبطية وتاريخها وتطورها ؟
سؤال بحثت عنه «اليوم السابع» فوجدت أنها آخر مراحل تطور اللغات المصرية, وبالتحديد هى آخر دور للهجة المصرية العامية فى اللغة المصرية القديمة التى تكلم بها سكان وادى النيل منذ آلاف السنين، وقد تحولت هذه اللهجة إلى لغة دينية وعامية مستعملة فى أوائل القرن الثالث الميلادى وظلت كذلك حتى حلول القرن السابع عشر واقتصرت على الكنائس فى ظل انتشار اللغة العربية التى أصبحت لغة البلاد الرسمية.
القبطية إذن مجرد (لهجة) دارجة قائمة بذاتها وتطورت تطورًا طبيعيا جرى عليها كما جرى على كل اللهجات المنبثقة من كل لغة من لغات العالم، فمثلاً الفرنسية كانت لهجة لاتينية ثم تطورت لتصبح لغة فرنسا، وكانت اللاتينية أيضًا لهجة تطورت من اللغات الهندية, والهندية تنتمى إلى مجموعة اللغات الآرية، وإن كانت اللهجات السبع الأولى للغة المصرية القديمة قد كُتبت بالحروف المصرية الهيروغليفية واللهجة التاسعة بالهيروغليفية مع تغيير فى أصوات العلامات ، واللهجة العاشرة بالديموطيقية فإن اللهجة القبطية خالفتهُ وكُتِبت بحروف اللغة اليونانية الإثنين والعشرين مع استعارة 7 أحرف فقط من الخط المصرى الديموطيقى.
إذن فالدور الأخير من اللغة المصرية وهى ما نسميها اللغة القبطية قد كُتبت بحروف يونانية صِرْفة لا علاقة لها بالحروف المصرية واستعارت من المصرية سبعة أحرف ديموطيقية لم توجد فى اليونانية، وقد قصد المسيحيون بذلك قطع الصلة مع المصريين لسببين:
1 - لقطع الصلة قدر الإمكان بينهما وبين الوثنية.
2 - لزيادة التقرب بينهم وبين اليونان الذين بشروهم بالمسيحية.
لمعلوماتك..
◄3 فى القرن الثالث الميلادى بدأ المصريون تداول اللهجة القبطية.
◄7 هى عدد الأحرف التى تم استعارتها من الخط المصرى الديموطيقى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.