ببساطة وبدون استخدام الألفاظ الاقتصادية المعقدة، نقول إن مشروع الموازنة العامة للدولة ما هو إلا ملامح السياسة المالية والاقتصادية للبلاد خلال عام مقبل، ويبدأ فى إعداد مشروع الموازنة بقواعد إرشادية تصدرها وزارة المالية للوزارات والهيئات لتضع كل منها مشروع الموازنة الخاصة بها، والتى تتلخص فيما تحتاجه من موارد وتحديد أوجه صرفها، هذه الموازنات الفرعية تتجمع فى مشروع واحد هو «الموازنة العامة». وتضم البيان المالى، ثم قانون الموازنة والذى يصدر لها سواء من رئيس الجمهورية أو البرلمان، والبيان المالى هو بيان تقديرى عن حجم الموازنة الجديدة (الموارد والمصروفات)، وهو يختلف عن «الحساب الختامى» والذى يتم إعداده بعد نهاية العام المالى وهو «حساب فعلى» لما تم على أرض الواقع. ومن هنا، فالبيان المالى ما هو إلا إثارة للمشهد الحالى ثم الأهداف المطلوب تحقيقها، والتحديات التى تواجه ذلك، وكيف سيتم تحصيل الموارد؟ ومن أين؟ أى هل هذه الموارد حقيقية جاءت من نشاط اقتصادى فعال، أم أنها عبارة عن قروض ومعونات، هذا بالطبع بخلاف الموارد السياسية مثل الجمارك والضرائب والرسوم، ثم يشير البيان إلى أوجه الإنفاق سواء كان اقتصاديا أو استثماريا أو اجتماعيا، مع الإشارة إلى كيفية معالجة العجز الناتج نجد الموارد والنفقات وما تأثير ذلك على الدين العام للدولة. بمعنى آخر.. البيان المالى هو «فلسفة» إعداد الموازنة العامة الجديدة، وهو يبدأ بالإشارة إلى المشهد الاقتصادى الذى نعيشه والذى يتسم بالخلل المالى، يعكس ذلك ارتفاع معدلات النمو فى الاقتصاد إلى حوالى 2%، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع معدلات البطالة- خاصة بين الشباب- إلى حوالى 14%. أضف إلى ذلك ارتفاع حجم الدين العام إلى حوالى 95% من الناتج المحلى، وبلوغ عجز الموازنة العامة إلى حوالى 14% بسبب ارتفاع قانون الأجور والدعم! والمشكلة أن هذا العجز كاد يصل إلى حوالى 16% لولا بعض الإجراءات التى اتخذتها الحكومة للسيطرة عليه، كان من أهمها الإجراءات الضريبية، مثل توسيع قاعدة المطالبين بسداد الضريبة العقارية، وإقرار ضريبة مؤقتة لمدة ثلاث سنوات وبنسبة 5% فقط على كل من يحقق دخلا سنويا يزيد على مليون جنيه، وأيضا تم توسيع قاعدة الضريبة على الدخل، بخضوع صافى الأرباح السنوية المتحققة عن التعامل فى البورصة للضريبة، وكذلك توزيعات أرباح الشركات المسجلة بالبورصة. أما الدين العام.. فمازالت المشكلة قائمة، حيث مطلوب تخفيض نسبته من 96% حاليا إلى أقل من 15% من الناتج المحلى خلال الثلاث سنوات القادمة، هذا فى حين أن الموازنة عليها تنفيذ ما ورد بالدستور بشأن زيادة مخصصات الصحة والتعليم والتى قدرت بحوالى 22 مليار جنيه عن العام الماضى. وليس عجز الموازنة ولا ارتفاع حجم الدين العام فقط هى المشكلة الملحة، فهناك أيضا عدد من الملفات- حسب البيان- يجب التعامل معها بجدية ولو على عدة سنوات، منها مثلا إصلاح منظومة المعاشات، وفض التشابكات المالية بين مختلف جهات الدولة، صيانة وتطوير الأصول الإنتاجية والخدمية (المال العام) وإصلاح منظومة التشريعات الخاصة بالاستثمار وتحسين بيئته. هنا يقول البيان إنه لكى نحقق ما تقدم يجب الآتى: إعادة النظر فى أسلوب إدارة الاقتصاد القومى، أى التعامل معه كوحدة واحدة، وليس كجزر منعزلة، كما يجرى حاليا سواء من خلال التعامل كقطاعات وكفئات، ثم إعادة توزيع الموارد المتاحة لصالح الفقراء ومحدودى الدخل من خلال إجراءات محددة: أولها ترتيب أولويات الإنفاق العام، ثانيا: إعادة النظر فى بنود الدعم الحالية والتخلص التدريجى منها خاصة غير الفعال منها، خاصة فى مجال الطاقة، السيطرة على عمليات تسرب الدعم لغير مستحقيه، والانتقال التدريجى للدعم النقدى وبصورة عادلة، ثم يعد البيان بعدم اتخاذ أى إجراء اجتماعى إلا إذا كان محددا سلفا مصادر تمويله، وأخيرا التسعير السليم لمواردنا الطبيعية وعلى رأسها منتجات المناجم والمحاجر والطاقة. وللتأكيد.. يعيد البيان تركيز السياسة المالية فى الفترة المقبلة على ترتيب أولويات الإنفاق العام لتحقيق العدالة الاجتماعية، زيادة معدلات النمو من خلال الاستثمار الحكومى والمشروعات المشتركة بين القطاعين العام والخاص، وهو ما يعنى الحاجة إلى موارد مالية.. وهو الذى يدفع وزارة المالية لإجراء تعديلات تشريعية إضافية، خاصة على قانون الجمارك، والمزايدات والمناقصات، والتطبيق الفعال لضريبة القيمة المضافة، مع الاستمرار فى تطوير منظومة المشتروات الحكومية، وإدارة المخزون الحكومى.. بهدف توفير النفقات. ويأخذنا البيان إلى ختام (المقدمة) بمجموعة من الجمل التقريرية المهمة والتى تنص على أن إعادة الثقة فى كفاءة الاقتصاد المصرى من خلال حزمة إصلاحات أساسية يمثل أهم عنصر من عناصر خروج الاقتصاد من أزمته الحالية وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين نتيجة زيادة معدلات التشغيل ووجود موارد مالية تسمح بالإنفاق على الخدمات والمرافق بصورة أفضل. ولذلك.. فإن ضبط المؤشرات الاقتصادية العامة وأهمها عجز الموازنة وتضخم الدين العام، وفجوة ميزان المدفوعات.. من خلال إجراءات سريعة ومحددة.. لم يعد طرفا أو اختيارا. ويؤكد البيان مرة أخرى على ضرورة تغيير منهجية إدارة الاقتصاد القومى ومختلف مرافق الدولة ورفع كفاءتها. فرصة عمل جديدة وينتقل البيان- بعد المقدمة- إلى ما يسمى الإطار العام لإعداد الموازنة والذى يتحدث فيه عن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للسياسة المالية، ثم أهم تطورات الاقتصاد الدولى، والتحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى فى الوقت الراهن ثم التقديرات الرئيسية والإجمالية لمشروع الموازنة وما تضمنه من إنفاق لتدعيم العدالة الاجتماعية. وسوف نركز هنا على الأهداف الرئيسية للموازنة العامة الجديدة، وفى المقدمة منها.. زيادة معدلات التشغيل لتوليد فرص عمل حقيقية بجانب تحقيق فوائض مالية من الأنشطة الاقتصادية يمكن إعادة استخدامها، وتحقيق هذا الهدف يتطلب تحسين مناخ الأعمال بصفة عامة، وتوفير الطاقة المطلوبة لكافة الأنشطة وتحقيق التوازن بين العمال وأصحاب العمل، وأيضا إلقاء كافة السياسات المحفزة لتوجيه رءوس الأموال للاستثمار فى صناعات كثيفة الاستخدام للطاقة.. هذا مع زيادة مخصصات الإنفاق الاستثمارى.. وقد زادت فى مشروع الموازنة الجديد- من الخزانة العامة- إلى 45 مليار جنيه مقابل 34.4 مليار العام الماضى.. مع القيام بتنفيذ المشروعات الكبرى مثل مشروع تنمية منطقة القناة، التوسع العمرانى، وازدواج ممر القناة، فكل هذه المشروعات توفر فرص عمل ضخمة ومتنوعة. عدالة اجتماعية والمشكلة هنا أن زيادة فاتورة الأجور والدعم لم تنعكس على الأحوال المعيشية للمصريين، حيث حاولت الحكومات السابقة احتواء الطموحات الفئوية بالزيادة فى الأجور والمعاشات، مع الحفاظ قدر المستطاع- على وفرة المواد الغذائية والخدمات العامة رغم ارتفاع التكلفة بصورة متزايدة، مما أدى إلى زيادة العجز فى الموازنة العامة للدولة، ولذلك يطالب «البيان المالى للموازنة» بوقفة جادة وحاسمة فى تغيير منهجية إدارة الاقتصاد القومى وفاعلية الإنفاق الحكومى خاصة على الجانب الاجتماعى. ووجهة نظر الحكومة أن العدالة الاجتماعية ليست مجرد وضع حد أدنى أو أقصى لأجور العاملين فى الدولة، أو تنفيذ برامج الدعم المختلفة، حيث إنها أوسع وأشمل من ذلك بكثير، فهى تعنى القدرة على «التمكين» أى زيادة قدرة المواطن فى الحصول على فرصة العمل المناسبة، مع توافر مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع، ولذلك فالحكومة تعمل فى هذا المجال على مسارين، الأول توفير وتحسين الخدمات العامة الأساسية، مع إعداد سياسات لتوفير الحماية الاجتماعية للمواطنين. الانضباط المالى يؤكد البيان على أن هدفه ارتفاع معدلات التشغيل وزيادة الإنفاق الاجتماعى لن يتحقق دون وجود استقرار مالى واقتصادى ولو على المدى المتوسط، وهو ما يعنى ضرورة إتباع سياسات مالية منضبطة ومتوازنة، تضمن توليد موارد مالية متجددة ومنتظمة، كل ذلك بفرض ايجاد التمويل الكافى لتلبية احتياجات المواطنين وطموحاتهم. وهذا الانضباط المالى يتطلب اتخاذ إجراءات اقتصادية جادة يجب أن نتحملها جميعا ودون استثناء على الفقراء ومحدودى الدخل، وهذه الإجراءات تكاد تكون متفقا عليها ومنها إعادة النظر فى الدعم، مكافحة التهرب الضريبى وجدية تحصيل المتأخرات الضريبية، حيث لابد من خفض عجز الموازنة وتخفيض الدين العام، بالإضافة إلى توجيه موارد إضافية لتمويل برامج تنموية جديدة خاصة فى مجالات التعليم والصحة والحد الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات. مع ملاحظة أن هذه الإجراءات والنجاح فيها سوف تسهم فى سرعة إعادة الثقة فى الاقتصاد المصرى وما يعنيه ذلك من زيادة تدفقات رؤوس الأموال الخارجية، وتخفيف الضغوط على سعر الصرف، فضلا عن تخفيف أعباء خدمة الدين من الأجيال القادمة. ويعاود البيان التكرار مرة أخرى على المبادئ والأسس التى تمت مراعاتها عند إعداد مشروع الموازنة، ومنها تنفيذ كافة الالتزامات الواردة فى الدستور بشأن زيادة الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى بشكل تدريجى على مدى ثلاث سنوات، تمهيدا للاقتراب من المعدلات العالمية فى هذه المجالات. وأيضا الحرص على وصول الإنفاق الجارى والاستثمارى إلى الفئات الأكثر احتجاجا، مع العدالة فى التوزيع الجغرافى بين المحافظات خاصة فيما يتعلق بالمرافق والخدمات العامة. هذا مع التأكيد على المصداقية والشفافية فى كافة ما تقوم به الحكومة من إصلاحات وسياسات تستهدف تحسين أحوال معيشة المواطنين المصريين.