واحدة من السمات الرئيسية لمراحل الانتقال التى تُصاب بها الدول والمجتمعات بعد الثورات أو الحروب الكبرى، أن تتبلور قوى بعضها جديد وبعضها يمثل امتدادا لعصور سابقة، كل منها يريد أن يستأثر بالنصيب الأكبر من السلطة والقوة، وأن يفرض هيمنته على الحركة العامة فى المجتمع. ويوظف لذلك كل الطرق والأدوات المتاحة له. ومثل هذا الوضع تعيشه مصر منذ الانتفاضة الشعبية فى 25 يناير 2011 وحتى الآن. ومع الاقتراب من تبلور نظام سياسى جديد يعكس الظروف والتغيرات التى مرت بها البلاد، تبدأ عمليات الشد والجذب بين القوى المجتمعية المختلفة. وبالمعنى التاريخى فمثل هذه العملية أمر طبيعى، وقد مرت به الدول التى شهدت ظروفا مماثلة لما مررنا به جميعا فى السنوات الأربع الماضية. ومن ثم فلا مجال للانزعاج الذى يبديه البعض من أن يكون هناك طرف بذاته يسعى لإثبات ذاته ووجوده فى الخريطة السياسية والاقتصادية الجديدة الآخذة فى التبلور رويدا رويدا. والمهم هنا هو من هذا الطرف أو الأطراف وماذا تريد بمصر؟. من اليسير وعبر ملاحظة عابرة للتطورات الجارية أن يضع المرء يديه على اتجاهين رئيسيين لحركة المجتمع؛ الأول سياسى والثانى اقتصادى. فالأول يُعنى بالتحالفات السياسية الساعية لخوض معركة البرلمان المقبل وهو الأخطر فى تاريخ مصر المعاصرة، والثانى يعنى بالأداء الاقتصادى فى ظل رئاسة السيسى. وبالقطع فهناك علاقة قوية بين الأمرين، وحسب كثير من الشواهد فثمة تلازم بين حركتى السياسة والاقتصاد، أو بمعنى آخر تداخل بين حركة التحالفات السياسية وحركة رجال الأعمال، وبينهما وسطاء من رجال الصحافة والإعلام، بل إن البعض من هؤلاء يبدو كشريك فى تحديد البوصلة أو على الأقل يوحى بطريق محدد يجب أن تسلكه البلاد لأنه ببساطة يعكس مصالح كبرى هو جزء رئيسى منها. وهنا تتبدى قضية خطيرة للغاية، حيث يتحول جزء من الأداء الإعلامى إلى إعلام تعبئة وتوجيه لمصالح فئوية بدلا من أن يكون إعلامًا يدافع عن المصلحة العليا للوطن ككل. وهنا وجب التحذير من الانزلاق أكثر فى مثل هذا المنعطف الخطير. *** لقد عانت مصر قبل انتفاضة 25 يناير من زواج المال بالسلطة، حيث اختلط رجال الأعمال بساسة الحكم اختلاطا مصلحيا تجاوز الحدود، مما أدى إلى تشابك المصالح الفئوية والخاصة على حساب المصالح العامة، فكانت المعاناة التى أصابت المصريين جميعا، وأطلقت بدورها الغضب الشعبى العارم، فكان أن سقط نظام تصور أنه يستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية. ولما كانت المسافة الزمنية بين هذا السقوط واللحظة التى نعيشها ليست كبيرة، والذاكرة الجماعية لم تنس بعد ماذا فعل الكثير من رموز رجال الأعمال زمن مبارك، وكيف حصلوا على مكاسب وامتيازات بعضها وفقا للقانون وبعضها الآخر التفافا على القانون ذاته واستثمارا للاقتراب المباشر من رجال السياسة زمن مبارك، فأتصور أن الدرس يجب أن يكون ماثلا للعيان، وخلاصته أنه لا سبيل مرة أخرى لزواج المال بالسلطة، ولا سبيل لسطوة المصالح الفئوية على حساب المصلحة العامة لجموع المصريين، ولا سبيل للالتفاف على القانون. فتلك المعادلة خطيرة وثبت فسادها ولا حاجة لمصر أن تعيدها مرة أخرى. واذا كانت مصر بحاجة إلى قوى مدنية تتجمع فى وعاء حزبى أو تكتلين أو حتى ثلاثة تحالفات حزبية، يمكنها المنافسة الشريفة من أجل برلمان يؤمن بمدنية الدولة وبهوية مصر الوسطية وبدورها القومى والإنسانى والحضارى المشهود عبر التاريخ.. برلمان يستطيع أن يترجم مبادئ دستور 2014 إلى قوانين وتشريعات وآليات عمل تطلق عنان المجتمع وقدراته، فإنها أيضا بحاجة إلى رجال أعمال من فئة الصنُّاع العظام الذين يؤمنون بدورهم كقاطرة للتنمية والتصنيع والتقدم العلمى والتقنى، ويؤمنون أيضا بدورهم فى دفع الاستثمار وفتح المصانع وجذب الشراكات الأجنبية المفيدة للمجتمع من حيث جلب تكنولوجيا حديثة وصناعات متقدمة وأفكار خلاقة، وفى الآن نفسه بحاجة إلى رجال أعمال يؤمنون بثقافة ومعايير دولة القانون والمواطنة، وأن من حق المجتمع أن يحصل منهم على عائد تنموى بقدر ما هو واجب على المجتمع نفسه أن يوفر لهم فرصا عادلة للاستثمار والتصنيع مشفوعة بحقهم فى التمتع بعائد معقول ومناسب لما تحملوه من مشقة المجازفة بالأموال والوقت. مثل هذه العلاقة العادلة بين المجتمع وبين رجال أعماله فى ظل الدستور والقانون هى التى توفر مظلة أمان للجميع، وتوفر فرصا للتقدم، وفرصا للعطاء الطوعى غير المجبور إن رغب البعض من رجال الأعمال فى أن يقدموا لأبناء وطنهم المزيد من العطاء وتوفيرا لمزيد من الاستقرار المجتمعى الذى هو أساس أى نجاح اقتصاديا كان أو سياسيا. والمسألة هنا هى قرار ذاتى يقدم عليه رجل الأعمال كل حسب قدرته وحسب رؤيته، فإذا كان قراره بالاستثمار فى مجال بعينه هو نتيجة لخبرته وتقديره لعوامل الربح والخسارة، فإن إقدامه على التطوع بمشروع لخدمة المجتمع أو بقدر من المال من أجل فكرة تسعى إلى تغيير إيجابى فى بنية الفكر والثقافة والسلوك الجماعى، فهو أمر يخصه أولا وأخيرا ولا مجال فيه لغصب أو إجبار. والمهم أن يكون حُسن النية هو الدافع والرغبة فى إفادة المجموع والعنصر الحاسم. إنها أمور تتعلق بالنفوس قبل أى شىء آخر. *** ربما تعكس الرؤية السابقة قدرا من المثالية، ولكنى أعتقد أنها الأنسب والأقدر على خروج مصر من كبوتها، فضلا عن أنها رؤية تحاول أن تستفيد من تجربة مريرة خضناها جميعا فى السنوات العشر الأخيرة لنظام مبارك. وإذا كانت الشعوب لا تستطيع أن تتعلم من تجاربها المريرة فكيف يمكنها أن تنطلق إلى الأمام أو أن تحقق طموحها المشروع؟ مصر الآن فى مرحلة عبور من عنق زجاجة ضيق للغاية، يتطلب من الجميع روحا جديدة وشعورا بالمسئولية يتجاوز الشعارات البراقة إلى العمل والانجاز مشفوعا بقدر من التضحيات والمعاناة النسبية. وللإنصاف فكما نطالب القوى السياسية ورجال الأعمال وقادة الرأى بأن يضعوا نصب أعينهم مصلحة مصر العليا، فمن باب أولى أن نطالب رجال الحكم وأصحاب القرار بأن يراعوا أيضا بعض المعايير الضرورية. فصانع القرار الآن مُطالب قبل أى شىء بوضوح الرؤية وتوضيح السُّبل التى اختارها لبلوغ أهداف رؤيته وفق زمن متدرج، يكشف فيه كيف ستكون المعاناة وكيف سيكون الخروج منها، وكيف سيكون الانجاز وكيف سيكون العائد المنتظر ومتى. مثل تلك الصراحة والوضوح كفيلان بأن يثيرا لدى عموم المصريين الرغبة فى الإيثار، إيثار مصلحة الجماعة ولو بعد حين على حساب المصلحة الفردية الأنانية المباشرة. وإذا كنا نرى فى بعض تصرفات الرئيس عبد الفتاح السيسى نوعا من الإيثار ونوعا من القدوة، وهما أمران مطلوبان بشدة فى أيامنا هذه، فمن الضرورى ربط هذه التصرفات الذاتية بآليات عمل عامة، مثل إطلاق المشروعات القومية الكبرى فى الصعيد وفى قناة السويس وفى الضبعة وفى غيرها، وذلك حتى تطمئن قلوب المصريين بأن هناك جهدا حقيقيا يبذل من أجل الخروج من عنق الزجاجة الذى نعيشه جميعا. وحسب ما أوضح الرئيس السيسى فى لقائه برؤساء إدارة ورؤساء تحرير الصحف وعدد من الإعلاميين فى القنوات الفضائية المختلفة، فإن صندوق «تحيا مصر» الذى يرعاه بنفسه ومعه كل من شيخ الأزهر والبابا تواضروس، والذى يستهدف من ورائه الحصول على تبرعات من الراغبين من المصريين والمؤسسات من أجل تكوين رصيد مالى كبير يتم ضخه فى تمويل مشروعات صغيرة ومتوسطة تستقطب عددا كبيرا من الشباب. والفكرة على هذا النحو تمزج بين أمرين:- أولهما بث روح التطوع من أجل الصالح العام، وثانيها تنظيم هذا التطوع بحيث يخدم فكرة التنمية الشاملة بأبعادها المجتمعية والاقتصادية وبما يصب فى صالح الاستقرار المجتمعى الشامل. وهنا لا سبيل إطلاقا للإجبار أو الإكراه أو الضغط. فالتطوع أولا وأخيرا ثقافة وسلوك يقوم على الاقتناع الذاتى بقيمة ما يفعله المرء. ولذا فقد عجبت حين سألنى بعض الناشطين حول ما الذى يريده الرئيس السيسى من هذا الصندوق، وهل سيقوم بإجبار رجال الأعمال على التبرع. وبما أنه ليس لدينا إلا ظواهر الأشياء، فكلها تؤكد أن الأمر أولا وأخيرا عمل تطوعى، وأن رجال الأعمال هم أصحاب القرار فيما يتطوعون به أو لا يتطوعون به. كما أننى عجبت أيضا حين سئلت هل سيقوم الرئيس بتطبيق إجراءات استثنائية ضد رجال الأعمال. والحق هنا أن أحد الزملاء الصحفيين الكبار كان قد طرح فكرة أن تتخذ إجراءات استثنائية ضد عدد من رجال الأعمال الذين يشاع عنهم استفادتهم الكبرى من نظام مبارك السابق، هدف تحصيل مبالغ كبيرة تعين الموازنة العامة وتسد جزءا من العجز الكبير الوارد فيها، وأن تخصص هذه الأموال لصالح تنفيذ مشروعات تنموية كبرى. والحق أيضا أن الرئيس السيسى أجاب ببساطة متناهية قائلا إننا فى دولة قانون لا مجال فيها للإجراءات الاستثنائية ضد أى فئة كانت. وأن تطبيق القانون على الجميع هو العاصم لمصر من أى مكروه.