في مساء جمعة الغضب25 يناير الماضي, انسحبت الشرطة نحو الساعة الرابعة عصرا, وتقرر نشر الجيش لضبط الوضع الأمني, وحينئذ تبلورت معادلة جديدة في عمر ثورة الشعب المصري, أبرز عناصرها أن الجيش بات طرفا مباشرا في صنع الأحداث, وله الحق في أن يتحمل العبء الأكبر دون مزايدة من هذا الطرف أو ذاك. صحيح أن الرئيس السابق كان هو صاحب قرار نشر الجيش تعويضا عن انهيار الشرطة بفعل فاعل, لكن الجيش كمؤسسة وطنية جامعة قبلت القرار انطلاقا من مسئوليتها الدستورية والوطنية. فالمطروح عليها في تلك اللحظة كان حماية الوطن نفسه ومراكزه المهمة والمواطنين سواء الذين قرروا البقاء والاعتصام في الميادين, خاصة ميدان التحرير, أو الذين استمروا في مواقع الانتاج والعمل. ومع صباح السبت92 يناير وانتشار العديد من آليات ومدرعات القوات المسلحة حول ميدان التحرير لتحمي الثائرين والمعتصمين, تقدم الجيش خطوة أخري لحماية الثورة, وبذلك تبلورت علاقة شراكة حقيقية أخذت تفصح عن نفسها تباعا وفقا لتطور الاحداث. كان موقف الجيش وسيظل موقفا داعما لحق المصريين في الحصول علي حقوقهم الطبيعية في الأمن والحرية والكرامة ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين. ونظرا لأن تقاليد الجيش المصري تفضل العمل والانجاز في الواقع عن الدعاية والاعلان, فسيظل هناك الكثير من المواقف التي تنتظر اللحظة المناسبة لإعلان ومعرفة كل تفاصيلها الدقيقة, وليعرف كل مصري وعربي ماذا حدث بالضبط, وكيف كان موقف الجيش حاسما ومؤثرا في نجاح الثورة وفي تنحية الرئيس ونخبته. وأشير هنا إلي ثلاثة مواقف كنماذج توضح المعني. الموقف الاول ذلك الاجتماع الذي جمع الرئيس السابق مع القيادات العسكرية في مركز عمليات القوات المسلحة يوم الأحد03 يناير, وكان المعصتمون في ميدان التحرير قد قرروا البقاء لحين الحصول علي الجائزة الكبري المتمثلة في رحيل مبارك ورجاله. وحضر الاجتماع نائب الرئيس آنذاك عمر سليمان, وهو الاجتماع الذي وصفته وكالة أنباء الشرق الاوسط الرسمية بأنه جاء في إطار متابعة الرئيس الميدانية لتطورات الحالة الأمنية. لكن روايات أخري موثوقة تؤكد بأن الاجتماع شهد نقاشا حول ما يمكن أن يقوم به الجيش لفض الاعتصام بالقوة في ميدان التحرير كما كان يرغب الرئيس السابق ونجله جمال تحديدا. وانتهي الأمر بأن الجيش رفض الفكرة وقرر أنه سيحمي المتظاهرين ولن يقدم علي التعامل معهم بالقوة, فهم من الشعب والجيش هو أيضا من الشعب, وثقافة الجيش تقوم علي حماية الشعب والوطن وليس مواجهته. الموقف الثاني يتعلق بالبيان الأول للقوات المسلحة الذي صدر ظهر الخميس10 فبراير الماضي, أي بعد16 يوما كاملة من الاعتصام المستمر في ميدان التحرير, حدث فيها ارتفاع في سقف المطالب الشعبية مع إصرار شديد علي رحيل الرئيس ورموز نظامه, فضلا عن اتساع دائرة الاحتجاجات الفئوية وانضمام العديد من النقابات المهنية والعمالية إلي المعتصمون في ميدان التحرير. وقد لاحظ الجميع بأن البيان صدر عن اجتماع للقيادة العليا للقوات المسلحة ولأول مرة بدون مشاركة الرئيس الذي يعد القائد الأعلي للقوات المسلحة, وهو الغياب الذي أفصح صراحة عن اقتراب موقف الجيش من موقف جموع المصريين المطالبين برحيل الرئيس والعمل علي منع الانزلاق نحو حالة عصيان مدني شاملة تؤدي إلي إصابة أعصاب ومرافق الدولة المصرية بالشلل التام. وهنا كان البيان رقم1, والذي تضمن تأييد الجيش لمطالب الشعب المشروعة دليلا علي أن القوات المسلحة تدرك خطورة الموقف وتدرك خطورة عدم الاستجابة لمطالب الشعب. وفي قول أخر كان البيان بمثابة انذار أو لنقل دعوة غير مباشرة بضرورة اتخاذ الرئيس مبارك خطوة كبيرة تجنب البلاد, كما تجنبه هو شخصيا مصيرا غير مرغوب. الموقف الثالث وهو الخاص بما جري بين قيادة القوات المسلحة من جانب والرئيس مبارك ونائبه من جانب آخر في الساعات ال18 ما بين القاء مبارك بيان ليلة الخميس01 فبراير والذي فوض فيه نائبه بعض صلاحيات الرئيس, ومساء الجمعة11 فبراير الذي شهد إعلان التخلي عن السلطة وتفويض المجلس الاعلي للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد. ففي هذه الساعات كان هناك حوار خشن وقاس, أضاف ضغطا مباشرا علي الرئيس السابق ونجله من أجل التخلي عن السلطة وافساح المجال أمام تغييرات كبيرة في نظام الحكم ترضي طموحات وتطلعات المصريين جميعا. المواقف الثلاثة علي هذا النحو تكشف عن شراكة حقيقية بين الجيش والشعب أدت إلي تخلي الرئيس عن سلطاته ومن ثم إسقاط النظام السابق, وفتحت الباب أمام تغييرات كبري تتبلور ملامحها شيئا فشيئا. هذه النتيجة, أي الشراكة بين الجيش والشعب في إنجاح الثورة وإكمال دورتها, تفرض تناغما بين الطرفين, وتفرض أيضا تقديرا خاصا لدور الجيش, والذي إذا تصورنا أنه كان علي غير ما جري بالفعل لكانت الأوضاع في مصر في مسار آخر تماما. ولنا فيما يجري في ليبيا الشقيقة درس كبير, فحين تقف الجيوش أو قطاعات منها في مواجهة المواطنين ومطالبهم المشروعة, تصبح النتائج كارثية بكل المقاييس. ولذا فإن تلك النغمة التي سادت في الأسبوعين الماضيين وروج لها عدد من الناشطين السياسيين, وحملت نقدا مبطنا لأداء القوات المسلحة تبدو لي غير منصفة إن لم تكن مضللة, إذ تقوم بعملية شحن شعبي في غير محلها, وتمهد لنوع من الاحتكاك الخطير بين الشعب والجيش, وتعمد إلي الإسراع بإخلاء الجيش ساحة إدارة شئون البلاد حتي يسيطر عليها من يطمح بالاستئثار بالسلطة دون سند من شرعية شعبية أو قانون. لقد كرر عدد من السياسيين والكتاب انتقادات بشأن ما وصفوه بالتصرف البطئ في معاقبة فلول النظام السابق, والتصرف في إدارة شئون البلاد وكأنه قد تلقي هدية مسمومة يريد التخلص منها بأسرع طريقة أيا كانت النتائج. وانتقد البعض البيان الدستوري الذي أعلنته قيادة القوات المسلحة وتعهدت فيه بانتقال آمن وسلمي للسلطة المدنية في غضون ستة اشهر وبما يؤدي لاحقا إلي وضع دستور جديد يتلاءم مع طبيعة العصر وطموحات المصريين جميعا. وبدلا من أن يكون الشكر والتقدير هو الرد المناسب لهذا الموقف الواضح, وبدلا من أن تكون الدعوة للتعاون الصادق مع الجيش لانهاء هذه الفترة الانتقالية بأسرع ما يمكن والتحول الي حياة مدنية طبيعية, رأينا من يقول بأن الفترة الانتقالية ليست كافية, وأن من الضروري أن تطول إلي عامين, يتخلي فيها الجيش عن مهمته في إدارة شئون البلاد ويقبل بمجلس رئاسي, يكون فيه عضو عسكري واحد وأربعة من المدنيين, لغرض إدارة عملية التحول السياسي في غضون عامين. والاقتراح في حد ذاته يقبل النقاش الديموقراطي, ولكنه لا يجب أن يكون ذريعة لتوجيه اللوم للجيش, لأن هناك قوي سياسية معتبرة مع الإسراع بإنهاء الفترة الانتقالية وفقا لرؤية القوات المسلحة وإن بتعديلات بسيطة في التطبيق. كما أن هناك فئات من المواطنين تتزايد كل يوم وتطالب الجيش بالحزم والشدة وإلا أفلتت الأوضاع أكثر مما هي عليه, ودخلت البلاد في دوامة لا نهاية لها. اللافت للنظر هنا أمران; الأول أن هذه الانتقادات توحي بأن تصرفات الجيش علي هذا النحو ليست مع الثورة بل ضدها. وهناك من كتب بالفعل في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي بأن الجيش هو نفسه الذي يدير الثورة المضادة في واحدة من أكبر الافتراءات والاتهامات الظالمة للقوات المسلحة وقيادتها. والثاني أن هناك قناعة لدي مجموعات الثائرين بأن الثورة لم تكتمل بعد, وأن اكتمالها الحقيقي هو الاستيلاء علي السلطة ذاتها, وهو أمر لن يتحقق ألا بدفع الجيش إلي العودة إلي الثكنات وتسليم السلطة للثائرين. ومن هنا يتطوع كثيرون بالقول أن الشرعية الثورية أسقطت الشرعية الدستورية وبالتالي فإن إدارة الجيش للحياة السياسية في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة بلا سند دستوري!. ويقينا أن الأمر علي هذا النحو هو نوع من اللعب بالنار التي تحرق الجميع. وفيه افتئات علي حقوق ملايين المصريين الذين يؤمنون بأن تصرفات الجيش في هذه المرحلة هي تصرفات نبيلة وهدفها حماية الثورة ومطالبها المشروعة ومعها حماية الدولة ككيان وكمؤسسات, ويؤمنون أيضا بأن عملية التحول إلي سلطة مدنية لابد أن تتم وفقا للقانون والدستور بعد التعديلات التي أدخلت عليه, والتي نقر جميعا إنها تعديلات انتقالية وحسب ولا تمثل طموحات المصريين, وهم الذين ينتظرون بفارغ الصبر وضع دستور جديد يتم الوصول إليه بإشراف مدني خالص تحت قيادة منتخبة بكل حرية ونزاهة. والغريب هنا أن الدعوة إلي عودة الجيش إلي ثكناته يروج لها البعض في ظل حالة فراغ أمني هائلة نتيجة إنزواء الشرطة وحدوث خلل كبير في جهاز الشرطة ككل, يتطلب الكثير من الوقت لمعالجته. فضلا عن انتشار أعمال البلطجة ونهب أراضي الدولة والملكيات الخاصة والعامة علي السواء. وهو أمر يثير التساؤل حول الأهداف الحقيقية لوضع البلاد علي طريق الفوضي بمثل هذه الطريقة غير المسئولة. إن تجاهل حقيقة أن الجيش المصري الآن يمثل صمام أمان أخير لكل المصريين هو الخطر ذاته, وأي اندفاع نحو وضع الجيش في مأزق أو في مواجهة مع المصريين هو موقف غير مسئول وغير وطني أيضا. وليحذر الجميع من ذوي الصوت العالي. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب