ما المجتمعُ المدنىّ؟ المجتمع المدنى هو مجموع المبادرات التطوعية للمواطنين للتعبير عن مواقف فى مسائل عامة، أو تأدية خدمات يحتاج إليها الناس، أو خدمة مصالح فئوية لأصحابها. وبهذا المعنى يندرج تحت هذا المصطلح الواسع كل ما هو خارج النطاق الخاص للأسرة، والنطاق العام للدولة، أى يدخل تحت هذا الاسم الجمعيات الخيرية والتنموية، والروابط والنقابات المهنية والأحزاب السياسية. وفى مجتمعنا المصرى، كلما تبلور وتخصص أحد مكونات المجتمع هذه، صدر بشأنه قانون خاص. من ذلك أنه لدينا الآن قوانين للنقابات العمالية والمهنية وللأحزاب السياسية، وهكذا، وما تبقى من كيانات المجتمع المدنى بلا قوانين خاصة، صدر بشأنه قانون «الجمعيات والمؤسسات». كان صدور أول قانون فى هذا الصدد عام 1939، مع إنشاء وزارة للشؤون الاجتماعية والعمل، وتغير هذا القانون مع ثورة يوليو 1952، ثم ثلاث مرات أخرى منذ ذلك الحين. ولكن الشاهد هو أنه كل مرة يتغير فيها القانون إلى تاريخه، فإنه كان لمزيد من تكبيل العمل الأهلى بقيود أمنية وإدارية، ويكون الغرض المعلن أو الضمنى هو السيطرة المركزية على النشاط الأهلى. ويمكن تقريب الصورة أكثر كالتالى: - مجموعة من ضباط أمن الدولة أو «الأمن الوطنى» فى لاظوغلى، مع مجموعة من موظفى وزارة الشؤون الاجتماعية، يتلقون مرتباتهم من الخزينة العامة، وليس لهم نشاط تطوعى، فى مواجهة ملايين المواطنين الذين يتطوعون لأداء عمل عام وفى سبيل ذلك ينفقون من الوقت والجهد والمال الخاص. ومأساوية المشهد فى مصر هى أن موظف أمن الدولة أو الشؤون الاجتماعية، يصر على فرض وصايته أو رقابته على المتطوع بماله أو جهده الخاص، فيا لها من مفارقة! فى البلدان الديمقراطية العريقة مثل الإسكندنافية وكندا والولايات المتحدة، لا توجد مثل هذه القوانين، ولكن فقط ما يسمى ب«علم وخبر» أو «إشهار»، وهو بمثابة عقد بين من يقومون بالعمل التطوعى، لكل من يهمه الأمر، وضمن ذلك السلطة المحلية، فهو بهذا النحو «عقد مدنى» بين مواطنين، كأى عقد. ولا تتدخل أى جهة تنفيذية فى أى أمر من أمور هذا التعاقد المدنى بين المؤسسين أو المتعاقدين، إلا إذا نشأ خلاف بين المتعاقدين، وحتى فى هذه الحالة، فإن الذى يتدخل نيابة عن الدولة، هو السلطة القضائية. فإذا كانت هناك حاجة إلى قانون لتنظيم العمل الاجتماعى الأهلى، فليكن من خمس مواد: إحداها بأسماء المؤسسين وعنوان المؤسسة، والثانية بأهدافها والنطاق الجغرافى لأنشطتها، والثالثة عن مواردها، والرابعة من إدارتها، والخامسة الجهة القضائية المختصة بالنظر فى ما ينشأ بين أعضائها أو مع الغير من خلافات. إن السبب وراء هذا المقال هو التوجه إلى مجلس الشعب الجديد، فى أن يرفض أى مشروع بقانون حول المجتمع المدنى أو الجمعيات، إلا بعد حوار مجتمعى واسع، لا يقل عن الحوار حول الدستور، وليعلم أعضاء مجلس الشعب أن مجلسهم هذا هو نتاج ثورة. والثورات لا يقوم بها إلا أحرار، يدركون منذ البداية أنهم يخاطرون بما يملكون من جهدهم ومالهم ومستقبلهم وحياتهم. والثورات لا يقوم بها إلا متطوعون، فالموظفون الحكوميون والجيوش النظامية لا تقوم بالثورات، أى أن القواسم المشتركة بين من يقومون بالعمل الأهلى والعمل الثورى عديدة. والثورات لا يقوم بها «وزراء» فالوزراء هم «السلطة» من أصحاب الجاه والأمر والنهى، وتنفجر الثورات عادة للاحتجاج على من هم فى السلطة لاستبدادهم وفسادهم. إن معظم أعضاء مجلس الشعب الجديد جاؤوا من خلفيات فكرية وتنظيمية ظلت شرعيتها محجوبة بالباطل، وها هم أولاء الآن فى مواقع السلطة التشريعية، فلا تحجبوا شرعية أحد، ولا تكرروا آثام من سبقوكم من القوم الظالمين. فإذا لم ينجز مجلسكم غير تحرير المجتمع المدنى من قيوده، وإطلاق طاقاته وإبداعاته الحبيسة، فسيكون أجركم عند الله والوطن لعظيم. من يرددون فكر المؤامرة؟ لا تستمعوا إلى الأصوات التى تتصور أن وراء كل شجرة عفريتا أجنبيا، ومعه كيس من الدينارات يبحث لها عن «عملاء». فلم يثبت خلال المئة والخمسين عاما الماضية، أى منذ إنشاء أول «جمعية خيرية» فى الإسكندرية عام 1840، أن أى جمعية تطوعية مصرية قد ثبت ضلوعها فى أى عمل يمس الأمن القومى، من قريب أو بعيد. وكما يذهب المبدأ الشرعى والقانونى الأثير «إن البينة على من ادّعى»، فليخرس كل من يردد نظرية المؤامرة إلى أن يكون بين يديه من «البيانات» ما يسند ادعاءاته وحتى إذا توفر لديهم أى منها، فليذهبوا بها إلى النائب العام. فاتركوا المجتمع المدنى وشأنه، فهو صاحب الفضل فى الثورة التى أتت بكم من الميدان إلى البرلمان، وفّقكم الله، وليغفر لنا جميعا.. فهو الغفار الرحيم.