سمير العصفورى ليس مخرجًا مسرحيًا فقط فهو كاتب وشاعر و ملحن ومهندس ديكور و مفكر ورجل مسرح من طراز نادر صاحب مدرسة العصفورى ... بدأ مع جيل العمالقة الكبار وأدار مسرح الطليعة و أسس نادى 79 الذى تحول إلى قاعة صلاح عبد الصبور الذى أفرز معظم الفنانين الموجودين على الساحة الآن. فى لقاء فكرى فى معرض الكتاب كان ضيفه المخرج الكبير سمير العصفورى قدمه للجمهور د عصام السيد الذى بدأ بقوله إن مشكلة العصفورى أنه عكس الكثير من مخرجى المسرح، لأنه يفكر فى النص المسرحى على أنه صورة، وأذكر أنه فى إحدى مسرحياته، قام بحذف نص كامل، وكان المؤلف أحد من يصولون ويجولون فى ساحة الكتابة المسرحية حينئذ، واستبدل العصفورى هذا الفصل الكامل فى المسرحية إلى رقص فقط، ونجح الرقص فى التعبير عن النص الذى تم حذفه، دون الدخول فى هذا الكم الهائل من الثرثرة التى لا فائدة منها. وعن السخرية أو ما يطلق عليه "العصفورزم فى مسرح العصفورى" قال: كان قدرى أن تكون بدايتى مع جيل العمالقة من أمثال الراحلين الكبيرين صلاح عبد الصبور وثروت عكاشة، وذلك عقب هزيمة 1967، من خلال قيام صلاح عبد الصبور بعمل شعرى ضخم أطلق عليه مأساة الحلاج. وكنت أرى مأساة الحلاج، مهزلة مهزلة، لأن أمة تحاكم رجلًا وتصلبه لأنه لديه يقين بأن الله يحل فى جسده، وهذه قضية شخصية لا تخص سوى صاحبها.. والقضية الحقيقية للمسرحية فى أصلها هى سياسية واجتماعية، حيث خرج الرجل ليحض الشعب ضد السلطان، إن مأساة الحلاج هى مأساة عصر كامل، أرادت فيه السلطة الحاكمة أن تتدخل فى كل شىء، إنها تجمع بين الشىء ونقيضه فى وقت واحد الضحك والبكاء. وأتذكر أنه أثناء عرض المسرحية، كان كل من بالقاعة من مصريين وعرب، فى حالة هستيرية من الضحك، بالرغم من صلب البطل فى النهاية، فالنص بالكامل قائم على حكاية غير مفهومة وملتبسة، فقد خرج الجمهور وفسر كل واحد النهاية كما يراه. لقد كنت سعيدًا جدًا وفخور لأننى لعبت مع هؤلاء العباقرة وأنا فى مقتبل العمر، وأتذكر أنه حدث خلاف بينى وبين الأستاذ بهاء طاهر وقتها حيث اعترض على ما جاء بالمسرحية من سخرية، اعتبرها طاهر إسفافًا، فطاهر واحد من المحافظين. وعن التناقض ما بين التراجيديا والسخرية فى أعمال العصفورى قال العصفورى أنا أقوم بقراءة النص أكثر من مرة، هذا بالإضافة إلى أننى من أولئك القليلين الذين لا يصدقون كلام النقاد ولا المقربين فى أعمالى، فأنا دائمًا أريد أن أشعر بنبض الجمهور، فبعد أن أنهى البروفات والتى قد أكررها أكثر من ثمانيه مرات، أستطيع أن أنام وأضع نفسى مكان المتفرج، ومن هنا فقط أقوم بإعادة وتركيب النص المسرحى من جديد. فأنا لدىَّ عنصر مهم هو الشك الإبداعى من خلال الجلوس مكان المتفرج والنظر إلى المسرحية على شكل مجموعة صور بالترتيب. فأنا أرى الصورة وأقلبها من الأمام إلى الوراء، من أجل الخروج بمشهد جديد، يناسب المتلقى دون التقيد والغرق فى بحور النص الأصلى. وفى إجابته عن السؤال الذى وجهه له الدكتور السيد عن أن أسلوب العصفورى التفكيكى وهل أثر فى الأجيال التى جاءت من بعده لدرجة أنهم قاموا بتشويه النص المسرحى؟ ضحك العصفورى وقال: مشكلة الأجيال الجديدة أنها اعتادت على أن تصعد السلم مرة واحدة وأنا أعتبر هذا من باب الانتحار، فجيلنا جيل الستينات تدرج حتى استطاع أن يعيش خارج جلباب من سبقونا، وهذا لا يمنع أننا استفدنا من تجاربهم وأضفنا إليها تجاربنا التى مررنا بها، والمشكلة الآن هى أنه لم يعد هناك تواصل بين الأجيال، فهيبة الآباء والمعلمين قد انتهت، ولقد مررنا بصعاب كبيرة جدًا فى بداية مشوارنا، حيث إنه لم يكن يوجد بمصر مدارس أو معاهد عليا لتعليم الإخراج، فبدأنا جميعنا ممثلين، ثم بعد ذلك تتلمذنا على مخرجينا الكبار حينئذ، إلى أن أُتيحت لنا الفرصة للذهاب للخارج لدراسة فن الإخراج. والآن وفى ظل هذه العبثية حيث يستطيع الطالب أن يذهب إلى أوروبا الشرقية ليشترى الشهادة التى يرغب فيها دون عناء، بل وصل الأمر إلى أنه من الممكن أن يفعل ذلك وهو فى بيته من خلال الإنترنت، دون أية معاناة، كل هذا أدى إلى أننا أصبحنا نرى عروضًا عمياء، كما أن الشباب الحالى يرى أنه فوق الجميع متناسيًا، أن الدراسة دون الخبرة والممارسة والاحتكاك لا تعدو كونها حبرًا على ورق لا فائدة منه. وأذكر الآن هذا الضابط العبقرى الذى كان ذا نظرة ثاقبة، عندما أرسل العديد من البعثات فى شتى المجالات الفنية والفكرية لاستكمال دراستهم بالخارج إنه الراحل ثروت عكاشة، وهذا ليس تحيزًا له، ولكنها شهادة حق، لواحد من أهم وزراء الثقافة فى تاريخ مصر، وأعتقد أن فاروق حسنى هو الآخر قد فعل شيئًا نسبيًا من ذلك. عندما ذهبت إلى فرنسا فى عام 1968، ذهبت ومعى ورقة مكتوب فيها أسماء عمالقة المسرح الفرنسى أعطاها لى الراحلان حمدى غيث وكرم مطاوع، وكلما سألت أحدًا فى فرنسا عمن هؤلاء ضحك وتركنى ولم يجب على سؤالى!.. وبعد فترة عرفت أن هؤلاء العمالقة يهيمون على وجوههم فى الشوارع، وأن هناك مدرسة جديدة خلعت كل أغلال المدرسة البرجوازية القديمة، وأبدعت فنًا مسرحيًا جديدًا، وبدأ يظهر مسرح عرائس الشارع، ومسرح العرائس والخبز، وعندما عدت إلى مصر حاولت أن أقدم مسرحًا جديدًا قائم على العبث والسخرية، للخروج من توابيت كل ما هو قديم. لقد أدركت مبكرًا أن كل ما هو وارد من الغرب ليس بجيد، وأن العبث والسخرية مرتبطتان وملاصقتان لثقافتنا، بما يملكه المصريون من تراث طويل فى النكتة والسخرية. ويستكمل العصفورى: أنا لم أقم بعمل معجزة ولكنى تواجدت داخل إطار، رسم لنا حلمًا قوميًا جاهدنا وكافحنا من أجله، وتاهت وانتهت هذه المعجزة كما تعلمون جميعًا مع مطلع ثمانينيات القرن الماضى. المسرح شغله الأساسى هو إعادة كشف الذات، إن للمسرح رسالة وهدفًا واضحًا، وهو طرح ومعالجة القضايا المجتمعية. الكارثية فى مسرحنا الحالى أنه يفتقد لتلك الرسائل التى تأتى من وراء النص وكذلك الصور التى أصبحت غير موجودة فى أعمالنا المسرحية الحالية.. فأنا كمن يعمل بالطين يجرب ويعدل لتخرج سلعته فى أبهى شكل، وأعتقد أننى من داخل منطقة الفنانين البسطاء، وأنا إما أن أكون معتزًا بالتجربة وأقدمها، وإما أن أعتذر عن التجربة، حلم المخرج غير محدود، ولا يمكن لأحد أن يحجبه، فالفنان الجيد لا يستطيع أن يفرض عليه أحد رؤية معينة. وعن إشكالياته ومشاكله المتعددة مع الممثلين قال العصفورى: الممثل هو المحطة الأولى التى من أجلها دخلنا معهد الفنون المسرحية، والممثل لا يكتسب خبراته الفنية فقط من خلال ما درسه بالمعهد، بل هو مجمل الخبرات الإنسانية، والتى تعد كنزًا لأنها معرض للإنسان سواء كان الإنسان سوى أو منحرفًا، فالممثل الذى لا يدرى بما يدور فى المجتمع من حوله، لا فائدة منه، فالممثل الملىء بالخبرات والتجارب، هو القادر على أداء كل الأدوار بإجادة وإتقان. وأنا لا أنسى هذه الأسطورة فى عالم التمثيل محمود المليجى، والذى كانت لديه القدرة على أن يبهرك بأدائه الذى قد يصل لحد السحر، وقد شاهدت ذلك عندما عملت معه فى مسرحية عائلة ضبش بعد عودتى من فرنسا، فقد كان المليجى أستاذا فى علم التشريح التمثيلى والبشرى.