لأمتنا الإسلامية فى شجاعة العلماء ومقاومتهم للظلم والجور والطغيان تاريخ مجيد وعريق وعميق .. فهذه الأمة هى التى تفردت بأن جعلت للعلم «سلطنة» تعلو عل سلطنة الأمراء فاطلقت لقب « سلطان العلماء» و «سلطان العارفين» على عدد من أفذاذ العلماء الشجعان. ولقد كان الحسن البصرى[21-110ه642-728م]«سيد التابعين» وفى ذات الوقت كان إمام المعارضة لجبروت الحجاج بن يوسف الثقفى [40-95ه 660-714]الذى قطع «عطاء»الحسن، وطارده كى يسجنه، فهرب من زبانية الحجاج، حتى ماتت أمه فلم يستطع حضور جنازتها والصلاة عليها ومواراتها التراب!. وكان الحسن الساعد الأيمن للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز [61-102ه681-730م] والمشير الأول له إبان خلافته التى ردت المظالم إلى أهلها وأعادت الشورى والعدل الاجتماعى إلى مكانهما فى دولة الإسلام. وعمر بن عبد العزيز هو القائل عن الحجاج بن يوسف: «لو جاءت كل الأمم بمنافيقها وجئنا بالحجاج لفضلناهم» ! ومن تحت عباءة الحسن البصرى، ومن مدرسته تخرج أبو عثمان « عمرو بن عبيد» [ 80-144ه699-76م] الزاهد الثائر الفيلسوف .. يهز عروش الطغاة، ويحيا حياة الزهاد مع جماهير الفقراء، ويحج إلى مجلسه العلماء .. وقد حج من البصرة إلى مكة أربعين عاما سيرا على قدميه، ومن خلفه راحلته يحمل عليها الفقراء والضعفاء!.. ومن الأدعية التى أُثرت عنه: «اللهم اغننى بالافتقار إليك، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك .. وأعنى مع الدين بالعصمة والطاعة وعلى الدنيا بالقناعة».. وكما كان عمرو بن عبيد تلميذ للحسن البصرى، ومعارضا لبنى أمية، فلقد كان أبوه واحدًا من رجال الشرطة فى دولة بنى أمية، حتى إنه عندما كان يمشى مع أبيه فى شوارع البصرة كان الناس يقولون: «خير الناس ابن شر الناس».. وعندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، ونهض عمرو بن عبيد مع أصحابه من العراق يريدون الشام ، لنصرة هذا الخليفة الذى ملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا.. وأفتى عمرو بن عبيد بأن عمر بن عبد العزيز و إن تولى الخلافة دون شورى - فلقد ولاه من سبقه - إلا أنه استحقها برضا الناس فكأن الرضا قد مثل شورى الأمة وبيعتها واختيارها:. وكان عمرو بن عبيد أستاذًا لأبى جعفر المنصور [95-158ه714-775م] الذى بايع مع أستاذه لمحمد بن الحسن ذا النفس الزكية [93-145ه712 -762م] بالخلافة إبان الثورة على بنى امية .. لكن المنصور نقض بيعته، وتولى الخلافة العباسية بانقلاب الشعوبية الخراسانية بقيادة أبو مسلم الخراسانى [137ه -754م] على العلويين.. فقاطع عمرو بن عبيد الدولة العباسية، ورفض أن يلى هو أو أحد من أصحابه القضاء أو الولايات، وقال للمنصور، عندما دعاه إلى المشاركة فى إدارة الدولة : « إن أصحابى لا يأتونك وهؤلاء الشياطين-الشعوبيون الخراسانيون- على بابك فإن هم أطاعوهم أغضبوا الله، إن عصوهم أغروك ألبوك عليهم .. أدعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك.. ببابك ألف مظلمة، اردد منها شيئا نعلم أنك صادق»!. هكذا كان شموخ العلماء أمام الخلفاء.. وهكذا كانت سلطنة العلم والعلماء أعلى من سلطنة الخلفاء والأمراء.. حتى عندما كان الخلفاء والأمراء علماء!!