يشهد الشارع المصرى، مؤخرا، حالة من الجدل حول حزمة المساعدات التى قررها الجانب القطرى إلى مصر والبالغة 5 مليارات دولار عبارة عن 4 مليارات وديعة بالبنك المركزى المصرى بفائدة تتراوح بين 1 و1.5%، مليار دولار معونة، بالإضافة إلى وعود أميرية قطرية تتعهد بالمضى قدما فى ضخ استثمارات قطرية دولارية فى الاقتصاد المصرى تفوق فى مجملها سقف ال18 مليار دولار منها نحو 5.2 مليار دولار فى مدينة قطر الصناعية .. وهذا ما دعا البعض للتساؤل بمنتهى البراءة .. ماذا تريد قطر من مصر؟! تذهب المؤشرات إلى أن محاولات قطر لتكثيف تواجدها فى مصر ليست وليدة اللحظة، بل تسير بخطى ثابتة منذ قيام الثورة، وأول خطوة فيها كانت صفقة استحواذ «كيو انفست» القطرية على 60% من «هيرمس» قطر مقابل 250 مليون دولار، وذلك بنقل ملكية كامل حصة المجموعة فى عدد من شركاتها العاملة فى قطاعات الوساطة المالية والبحوث وإدارة الأصول وخدمات بنوك الاستثمار، وقطاع البنية الأساسية إلى «اى إف جى هيرميس قطر». وتأتى صفقة استحواذ بنك قطر الوطنى على البنك الأهلى سوسيتية جنرال، لتمثل محطة مهمة أيضا فى هذا السيناريو، حيث استحوذ البنك القطرى 77.17% من أسهم الأهلى سوستيه جنرال مقابل نحو 16 مليار جنيه، ثم جاءت مدينة قطر بما تنطوى عليه من استثمارات تقدر بنحو 5.2 مليار دولار لتكون الخطوة الأهم فى سجل التعاون الاقتصادى المصرى - القطرى. المدينة الصناعية ويعد مشروع مدينة قطر المقرر إنشاؤها شمال السويس بمثابة العلامة الفارقة فى سجل التقارب المصرى - القطري، حيث ينتظر أن يخصص لها 14 كلم مربع، يقام عليها عدد كبير من مصانع الأمونيا والحديد والأسمنت، بالإضافة إلى محطة لتوليد الكهرباء بطاقة 1700 ميجاوات، وذلك باستثمارات تناهز 5.2 مليار دولار تولّد نحو 200 ألف فرصة عمل، وتعتمد على استيراد نحو 7 مليارات متر مكعب من الغاز المسال القطرى. هكذا، شمّر القطريون عن ساعدهم وقرروا اقتحام السوق المصرية بكل قوة، وبدوره تلقف الإعلام هذا القرار القطرى وتباينت ردود الأفعال ما بين مرحب بهذه الاستثمارات بوصف القطريين أشقاء عرب مسلمين ورافضين لها تخوفا من وجود أهداف سياسية غير معلنة لها، وتعددت الأوصاف بين من يصفها بأنها محاولات قطرية للهيمنة، وآخرون يرونها جزءاً من مخطط أمريكى يسعى لحماية الاستقرار فى المنطقة من خلال دعم مصر. وأمام هذه الضجة وصف الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء القطري، الحديث حول الهيمنة القطرية على مصر بأنها بمثابة «مزحة سخيفة» قيلت من أجل الاستهلاك المحلي، مشيرا إلى أن دولة بحجم مصر ومقدراتها البشرية والاقتصادية لا تمكن الهيمنة عليها من قبل أية دولة أخرى. الدور القطرى وأكد د. محرم هلال، رئيس مجلس الأعمال المصرى – القطري، أن الاستثمارات القطرية فى مصر تنقسم إلى استثمارات حكومية، وهى تلعب دورا كبيرا ومشهودا فى دعم الاقتصاد المصري، خاصة مع الإعلان عن تخصيص 18 مليار دولار للاستثمار فى مصر خلال السنوات الخمس المقبلة، وهى مبنية على استيراتيجيات ودراسات جدوى حقيقية. وقال د. هلال إن القسم الآخر من الاستثمارات القطرية فى مصر يتمثل فى استثمارات القطاع الخاص، المنتظر أن تشهد خلال الشهور القليلة القادمة انفراجة غير مسبوقة، خاصة أن المجلس سيهيئ المناخ الجيد للمستثمرين القطريين فى مصر، وأنه سيتم عقد اجتماعين للمجلس فى الدوحةوالقاهرة، وسيتم تشكيل لجان لمتابعة القرارات. وأضاف أن الحكومة المصرية تقدر جيدا الدور القطرى فى توفير الدعم للاقتصاد المصرى فى ظل الظروف الاستثنائية التى يمر بها الآن، مؤكدا أنه يحق للمستثمر القطرى أن يقلق على استثماراته، وأنه على الحكومة المصرية أن تقدم كل الضمانات للمستثمرين القطريين من خلال تطبيق القوانين. فوائض مالية ومن جانبه أكد د. محمود عبد الحي، مستشار معهد التخطيط القومى الأسبق، أن السعى القطرى لزيادة الاستثمارات فى السوق المصرى يرتبط بوجود فوائض مالية كبيرة لدى قطر فى مقابل وجود فرص استثمارية واعدة فى مصر، لافتا إلى أن مصر تتميز بأن لديها اقتصاد متعدد القطاعات (صناعى وسياحى وعقارى وتجاري)، فضلا عن أنه اقتصاد منفتح يوفر للمستثمرين سوقا استهلاكية يزيد حجمها على 83 مليون مستهلك. وأوضح أن هذه السوق توفر أيضا أكبر قوة عمل فى المنطقة تقدر بنحو 26 مليون عامل، فضلا عن أن معدلات الضرائب ما تزال فى الحدود الدنيا حيث تبلغ الضرائب على الشركات 20%، مشيرا إلى أنه من مزايا الاستثمار فى مصر أيضا وجود أكثر من 15 ميناء تجاريا، وأنه يمكن للمستثمر الأجنبى أن يفتح مؤسسة فى ظرف 72 ساعة، وأن رسوم ملكية العقارات لا تتعدى 2000 جنيه، وأنه يمكن تسجيل هذه الملكية فى أجل أقصاه 38 يوما. وأشار د. عبدالحى إلى أن أهل الخليج يحبون مصر ويبحثون فعلا عن مخرج لها لأنهم يدركون جيدا قيمة هذا البلد، وأن قيام قطر بضخ هذه الاستثمارات لا معنى له سوى أنها تريد أن تعين مصر على الخروج من المأزق التى تمر به، وأنه لا معنى لكل هذه الهجمة التى يديرها البعض من خلال بعض الأبواق الإعلامية، التى اخذت موقفا مناهضا للقوى الإسلامية على طول الخط. مصالح وطنية وقال د. فخرى الفقي، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة مستشار صندوق النقد الدولى سابقا، إن إعلان قطر عن منحها مصر مؤخرا نحو 5 مليارات دولار كوديعة وهو أمر طيب للغاية للاقتصاد المصرى، الذى يعانى فجوة تمويلية طاحنة، وبالتالى فإنه من الضرورى أن يتم تعزيز الاستفادة من هذه المخصصات، التى من المنتظر أن تتلوها استثمارات ضخمة تقرر ضخها فى الاقتصاد المصرى خلال السنوات القليلة القادمة. وأضاف أن الجانب القطرى يستهدف بلا شك من وراء هذه المساعدات والاستثمارات تحقيق مصالحه الوطنية، سواء كانت هذه المصالح تتكامل مع المصالح المصرية أو تتقاطع، ومن ثم فالأمر كله يحتاج من الحكومة المصرية للعمل الجاد على صياغة اتفاقيات ثنائية بين الطرفين تضمن توزيع عادل للمصالح، فالعدالة تقتضى هنا التوزيع العادل للمكاسب، لأنه لا يمكن أن تقدم قطر كل هذه الأموال بدون هدف. وأكد أن قطر تبحث عن الاستثمار فى مصر للاستفادة من مقدرات هذا البلد، التى تتمثل فى السوق الكبيرة والموارد الطبيعية الوفيرة والأيدى العاملة الرخيصة والماهرة فى الجزء اليسير منها، فضلا عما تمثله هذه السوق من كونها بوابة للمنتجات القطرية، التى تمكن صناعتها على الأرض المصرية إلى أسواق أخرى مثل أسواق اتفاقية الكويز وأسواق الكوميسا وأسواق الاتحاد الأوربى. وألمح د. الفقى إلى أن فصل السياسة عن الاقتصاد أمر محال، لذلك فإنه من غير المستبعد أن يكون للسياسة دور فاعل فى إحداث هذا التقارب، فالدولة القطرية على علاقة وطيدة بالولايات المتحدةالأمريكية، وبالتالى فإنه من الممكن أن تكون قطر تستهدف من مواقفها الداعم إلى جوار مصر أن تقوى تجربة الحكم الإسلامى فى مصر، وتمنع الفوضى عن هذا البلد المحورى فى المنطقة. وشدد على أن زيادة الفوائض المالية لدى قطر تدفعها للدخول إلى السوق المصرية لاستثمار أكبر قدر من هذه الفوائض لضمان موقف داعم على طول الخط للدولة القطرية فى نزاعاتها مع القوى الأخرى فى المنطقة، خاصة أن هذه الفوائض المالية قد تغرى بعض القوى للاعتداء على قطر مثلما حدث قبل ذلك عندما قرر الرئيس العراقى الراحل صدام حسين احتلال الكويت رغبة فى الاستيلاء على فوائضها المالية. وأرجع د. الفقى تخوفات الشارع من هذا التدافع القطرى للدخول إلى السوق القطرية إلى غياب الشفافية فى السياسات الحكومية بشكل عام، وبالتالى فإن غياب الردود العاقلة على ما يثار من شكوك بخصوص هذا الأمر أو غيره من الأمور يترتب عليه المزيد من الشائعات، مشددا على أنه لا مجال للحديث عن سعى قطر للاستيلاء على قناة السويس لأن هذا الأمر محال. البحث عن دور وقالت د. عالية المهدي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن قطر دولة قزمية لديها فوائض مالية ضخمة نتيجة زيادة الموارد مقارنة بحاجات السكان، وبالتالى فإنها تسعى دوما لاستغلال هذه الفوائض فى خلق مكانة لها فى منطقة الشرق الأوسط، التى طالما لم تجد لنفسها مكاناً فيه، خاصة مع الحرص المصرى والسعودى قبل الثورة على مواجهة كل المحاولات التى تستهدف ذلك. وأضافت أن قطر وجدت فى بلدان الربيع العربى فرصة سانحة للدخول معتمدة على أموالها لتعزيز دورها السياسى فى هذه البلدان التى تعيش حالة من عدم الاتزان الاقتصادى بسبب التداعيات السلبية التى تركتها الثورة، وبالفعل جاءت قراراتها بتقديم الدعم المالى لهذه البلدان، وجاء حجم حزم المساعدات متناسبا وحجم الأثر المترتب عليه، فكانت مصر صاحبة النصيب الأكبر بين بلدان الربيع العربي، لأن وجود قطر فى هذا البلد الكبير مغنم سياسى. ونبهت د. المهدى إلى أن القطريين يتخيلون أنه يمكن أن يؤثروا على القرار السياسى المصرى وذلك من خلال هذه الأموال التى يتم ضخها فى شرايين الاقتصاد، خاصة أن التجارب السابقة كلها تذهب إلى أن الدول التى احتلت دولا أخرى كان الاقتصاد هو المدخل الرئيسى للسياسة، وربما يكون هذا الأمر نصب أعين القادة القطريين، مطالبة الحكومة بأن تكون حريصة للغاية فى تعاملاتها مع المستثمرين القطريين لأن التهاون فى ذلك يعد تهديداً للأمن القومى. نظريات المؤامرة فيما أوضح د. حسن وجيه، أستاذ التفاوض الدولى بجامعة الأزهر، أنه من الضرورى أن يتم التعامل مع قضية التواجد القطرى فى مصر من منظور أن قطر بلد عربى وأن الشعب القطرى شعب شقيق، وأن النظام القطرى أعلن تأييده للثورة المصرية منذ اليوم الأول لها، وأن دعم قطر لثورات الربيع لا يمكن أن يراهن عليها أحد. وقال د. وجيه إن الوقت غير مناسب بالمرة لإعمال نظريات المؤامرة، فالظروف لا تحتمل كل هذه المراهنات السياسية التى يستهدف أصحابها التشكيك فى كل أمر إيجابى تستطيع السلطة الحاكمة ادراكه، فهذه الاستثمارات ما هى إلا جزء يسير للغاية من فوائض مالية قطرية 700 مليار دولار، تبحث قطر عن مكان آمن لوضعها فيه، ولا مكان أفضل من السوق المصرية لاستثمارها بشكل منضبط وقانونى بعيد كل البعد عن التأثير على قرارات السياسة المصرية كما يروج البعض. وأضاف أنه عندما يأتى العرب إلى مصر كمستثمرين يجب ان يتم التعامل معهم بعيدا عن منطق المؤامرة، لأن الطبيعى أن يقبل العرب على مساعدة مصر فى ظل الظروف الصعبة التى تمر بها وهذا واجب عليهم، لأن استقرار مصر يمثل ضرورة لكل البلدان العربية، رافضا كل السيناريوهات التى تروج من خلال بعض وسائل الإعلام التى تتعامل مع الأمر وكأنها محاولة قطرية لاحتلال مصر، وكأن قطر دولة استعمارية ومصر اقليم صغير يسهل احتلاله. وطالب د. وجيه الحكومة المصرية بالإسراع فى وضع خطة مدروسة لتعزيز الاستفادة من هذه المليارات بما يدحض كل ما يروج من أكاذيب تستهدف الإجهاز على الدولة المصرية التى ستظل شامخة رغم حقد الحاقدين، ناصحا زعماء البلدان العربية بالوقوف إلى جوار مصر لأن نهوض مصر هو نهوض للأمة العربية كلها. الكارهون للاستقرار أما د. محمد جودة، المستشار الاقتصادى لحزب الحرية والعدالة، فأكد أن الأمر بمنتهى البساطة أن دولة صغيرة جدا لا يخشى منها وجدت أنه من الصالح لها أن تستثمر أموالها فى بلد كبير مثل مصر، إلا أن الكارهون لاستقرار الأوضاع ممن يبحثون عن طريقة لزعزعة الاستقرار والابقاء على الوضع المأزوم الحالي، يجاهدون لإقناع المواطن البسيط أن هذه الدولة تحاول أن تحتل مصر، وهذا أمر لا يليق أبدا بمن يسمون أنفسهم نخبة. وقال د. جودة أن دولة قطر حريصة للغاية على التعاون مع مصر بدون أية حوافز اضافية بل فى إطار القوانين والتشريعات المعمول بها فى هذا المجال، وأن الاستثمارات القطرية «مش على رأسها ريشة»، وأنه لا يمكن أن يتم وضع حدود على أى استثمارات تأتى إلى مصر، باستثناء استثمارات الكيان الصهيوني، لأن الاقتصاد فى حاجة ماسة إلى كل جنيه، وذلك فى ظل التراجع الحاد فى معدلات الادخار التى تدور حول 14% مقابل متوسط عالمى 30% ونحو 45% فى الصين. وأضاف أن الاعتماد على هذه المدخرات المحلية لا يكفى لتحقيق معدلات نمو قدرها 2% أى أقل تقريبا من معدلات الزيادة السكانية، وبالتالى فأمام هذا الوضع لابد من تعزيز تدفقات الاستثمار الأجنبى سواء من تركيا أو قطر أو غيرها من البلدان، بالإضافة إلى البحث عن سبل تمويل غير تقليدية مثل آلية الصكوك الإسلامية المعمول بها فى العديد من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، والتى تقدر سوقه الآن بنحو 280 مليار جنيه. ولفت المستشار الاقتصادى لحزب الحرية والعدالة إلى أنه فى الوقت الذى تسعى فيه مؤسسة الرئاسة والحكومة لإدراك هذه الأهداف لإحداث تنمية حقيقية للاقتصاد المصرى تجد طائفة من المعارضين يحيكون الخطط والمؤامرات لتشويه صورة الحكومة والرئاسة وقلب الحقائق، لإفشال التجربة الديمقراطية وإجهاض الثورة، مشددا على أن أداء حكومات ما بعد الثورة تفتقد إلى الشفافية والافصاح، وأن الأيام الأخيرة أثبتت أن الحكومة تعلمت الدرس وأصبحت أكثر حرصا على إجراء الحوارات المجتمعية حول ما تنوى اتخاذه من قرارات. وكشف د. جودة أن العلاقات المصرية - القطرية تمر بأحسن حالاتها وتشكل مصر مع قطر وتركيا وتونس محورا مهما فى المنطقة العربية، ومن الممكن أن تشكل علاقات اقتصادية فاعلة، مؤكدا أنه حتى الآن لم يبدأ تنفيذ المشروعات الاستثمارية، التى قدر لها أن تزيد على 18 مليار دولار.