تكونت نظرية مقاصد الشريعة فى القرن الخامس الهجري، أو لنقل إن هذه الفترة من تاريخ الفكر الإسلامى تمثل عمر النظرية الحقيقي، حيث تكونت فيها الإرهاصات الأولى، ثم تلا ذلك مرحلة النضج، ثم فترة طويلة من الركود، تتسم بالتكرار والنمطية دون تجديد، ثم جاءت مرحلة الشرح والاستدراك، وأعقب ذلك مكون لا حياة فيه، كما سوف يتضح. ولا بد هنا من الإشارة إلى أننا نتكلم عن نظرية مقاصد الشريعة، وليس عن مقاصد الشريعة ذاتها. بمعنى أنه لا يسع أى باحث فاهم أن يزعم أن علماء الإسلام لم يعرفوا للشرع مقاصد إلا بعد ميلاد النظرية فى القرن الخامس الهجري!! وإنما المقصود أن النظرية - بشكلها كنسق فكرى - لم تتكون إلا فى هذه الفترة الزمنية، وهذا لا ينفى أن علماء وفقهاء الشريعة راعوا الموضوع فى اجتهاداتهم وترجيحاتهم وفتاواهم، منذ عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم الصحابة، والتابعين. هذه الفترة الزمنية هى المسئول الأول عن وصول النظرية إلينا بهذا الشكل - محمودًا كان أم مذمومًا - والإضافات فى موضوع المقاصد قليلة أو معدومة، وأسلوب «النقل»، كان منهجًا معتمدًا فى هذا الموضوع. فنظرية المقاصد - كنسق فكرى تنظيرى - لم تكن موجودة قبل القرن الخامس الهجرى، ولا ذكر لها - يقينًا - فى كل المؤلفات التى وصلت إلينا قبل هذا التاريخ. ونظرية المقاصد لا يوجد فيها جديد بعد القرن الثامن الهجرى، ولا استثناء من ذلك تقريبًا، اللهم إلا ابن تيمية - وقد يدخل ابن القيم تبعًا -، وكذلك بعض الاجتهادات المعاصرة التى تدعو إلى إعادة النظر فى النظرية عمومًا، وإلى بعض تفاصيلها خصوصًّا. وأول من تحدث فى نظرية مقاصد الشريعة كان إمام الحرمين الجوينى رحمه الله، وله فضل على علم أصول الفقه بشكل عام، وعلى نظرية المقاصد بشكل خاص، أما علم الأصول فيكفى «البرهان»، وأما نظرية المقاصد ففضله عليها بأنه صاحب اللبنة الأولى فى بناء النظرية، وإمام الحرمين - يملك نظرة كاملة للموضوع، ولكنه كان سابقًا على عصره بالإشارة التى أشار بها فى «البرهان»، فى كتاب القياس فى باب تقسيم العلل والأصول. يقول رحمه الله - بعد أن ذكر آراء العلماء فيما يجرى فيه القياس وما لا يجرى فيه -: «وهذا الذى ذكره هؤلاء أصول الشريعة، ونحن نقسّمها خمسة أقسام: أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل، ويؤول المعنى المنقول منه إلى أمر ضرورى لا بد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية. وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص فى أوانه، فهو معلل بتحقق العصمة فى الدماء المحقونة، والزجر عن التهجم عليها. فإذا وضح لناظر المستنبط ذلك فى أصل القصاص تصرف فيه، وعداه إلى حيث يتحقق أمل هذا المعنى فيه، وهو الذى يسهل تعليل أمله، ويلتحق به تصحيح البيع، فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة، فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة، ثم قد تمهد فى الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا مفر إلى طلب تحقيق معناها فى آحاد النوع وهذا ضرب من الضروب الخمسة. والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتفى إلى حد الضرورة، وهذا مثل تصحيح الإجارة، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية، فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة فى البيع وغيره. والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة حاقة، ولا حاجة عامة، ولكن يلوح فيه غرض فى جلب مكرمة أو فى نفى نقيض لها، ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث. والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة، وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحًا ابتداء، وفى المسلك الثالث فى تحصيله خروج عن قياس كلى، وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث. والضرب الخامس من الأصول: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة. وهذا يندر تضوره جدًّا، فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئى فلا يمتنع تخيله كلية. ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة، فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية، ولكن لا يبعد أن يقال: تواصل الوظائف يديم مرونة العباد على حكم الانقياد، وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة.. ثم إذا انتهى الكلام فى هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما فى معناها، لم يطمع القياس فى استنباط معنى يقتضى التقدير فيما لا ينقاس أصلاً.. فهذا بيان الضروب على الجملة». بهذا الكلام كانت الإشارة الأولى فى بناء النظرية والجوينى هنا يتكلم عما يجرى فيه القياس وما لا يجرى، والتقسيم الذى ذكره لم يسبقه أحد به يقينًا، وهذا التقسيم الخماسى هو النواة للتقسيم الثلاثى لدرجات المصالح: الضروريات، الحاجيات، التحسينات. ومن الواضح أن تقسيم الإمام الجوينى الخماسى يمكن اختزاله إلى تقسيم ثلاثي، فالقسم الثالث والرابع - فى حقيقة الأمر - قسم واحد(1)، والقسم الخامس يعتبر كلامًا خارج الموضوع، لذلك بعد أن ذكره قال إنه «يندر تصوره جدًّا». بهذا الكلام بدأت نظرية المقاصد الشرعية مسيرتها مع علماء الأصول، وقد تلقف هذه الإشارة الإمام أبو حامد الغزالى وصنع منها «نظرية مقاصد الشريعة». كيف صنع أبو حامد الغزالى نظرية مقاصد الشريعة؟ وكيف طورها؟ هذا ما سوف نراه فى المقالة القادمة بإذن الله.