معنى النظرية: من النظر، والنظر هو «تقلب الحدقة نحو المرئى التماسًا لرؤيته، وهو ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدى إلى استعلام ما ليس بمعلوم.. والنظر العلمى هو حركة الإنسان العالم لطلب علم عن علم» . وقيل فى تعريف النظرية أنها «قضية تثبت ببرهان، أو طائفة من الآراء تفسر بها بعض الوقائع العلمية أو الفنية». وهى قد تطلق على «ما يقابل الممارسة العملية»، وهى هنا تدل على «المعرفة الخالية من الغرض، المتجردة من التطبيقات العملية». وقد تطلق على «ما يقابل المعرفة العامية»، وهى هنا تدل على «ما هو موضوع تصور منهجى منظم ومتناسق، تابع فى صورته لبعض المواضعات العلمية التى يجهلها عامة الناس». فالنظرية «ما يقابل الحقائق العلمية الجزئية، بمعنى أنه تركيب عقلي، واسع، يهدف إلى تفسير عدد كبير من الظواهر». فالتنظير إذًا يحتاج إلى الاستقراء، ليتمكن الناظر من جمع أكبر عدد من الظواهر والقوانين، والربط بينها بالرباط المشترك، وهو ما أطلق عليه فى التعريف «المبدأ التفسيرى العام». أما معنى مقاصد الشريعة فمن المذهل أنه ليس لها تعريف واضح - أو حتى غير واضح – فى كتب الأقدمين، لذلك حين يجتهد أى باحث فى تعريف المقاصد لن يجد أى مرجع يعينه على ذلك غير المراجع الحديثة والمعاصرة. بل إن كثيرًا من الدراسات الحديثة فى الموضوع سارت على نفس المنهج القديم فى البحث، لذلك لم تلتفت إلى هذا المبحث لأن القدماء لم يبحثوه. وقد اهتم فقيه المقاصد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بهذا المبحث، فيقول - رحمه الله - فى تعريف المقاصد: «مقاصد التشريع هى المعانى والحكم الملحوظة للشارع فى جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون فى نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل فى هذا أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعانى التى لا يخلو تشريع عن ملاحظتها، ويدخل فى هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة فى سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة فى أنواع كثيرة منها». وعرَّفها الشيخ علال الفاسى - رحمه الله - بقوله: المراد بمقاصد الشريعة «الغاية منها، والأسرار التى وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها». ومن الواضح أن كلا الشيخين يتكلم عن مقاصد عامة للشرع، ومقاصد خاصة يلاحظها الشارع فى بعض جوانب الحياة، بالإضافة إلى المقصد الجزئى الخاص بكل نص على حدة. ومن كل ما سبق، يكون معنى «نظرية مقاصد الشريعة» هو: ذلك البناء الفكرى المتكامل، الذى يربط بين أكبر عدد من الظواهر والقوانين، المتعلقة بمعانى وأسرار وحكم الشريعة، الملاحظة فى جميع أحوال التشريع، أو معظمها، أو عند كل حكم جزئى من أحكامها، ويجمعها فى مجمع متناسق، يحكمه مبدأ تفسيرى عام». وعناصر التعريف السابق ثلاثة: العنصر الأول: جمع القوانين والظواهر، والربط بينها، بشكل متكامل غير ناقص. ولا شك أن عمدة هذا العمل يكون بالاستقراء الكلي. العنصر الثاني: مقاصد الشريعة نفسها، ومعنى ذلك التبحر فى أدلة الشرع ونصوصه، وما يعين على ذلك من العلوم الموضوعة لتسهيل فهم وتوجيه النصوص، وأهم هذه العلوم أصول الفقه. العنصر الثالث: المبدأ التفسيرى العام. وهذا هو المشكل فلو حاولنا معرفة المبدأ التفسيرى العام الذى ارتضاه القدماء حين كتبوا فى هذا الموضوع، سنجد أن المبدأ التفسيرى هو: «الحدود الجنائية». وهذا هو الخطأ التاريخى فى نظرية مقاصد الشريعة عند القدماء، فالمقصود الشرعى هو ما عليه حد أو عقوبة جنائية، أما كل مبادئ الإسلام العظمى من العدل والحرية والمساواة... إلخ، فهى خارج إطار المقاصد، أو ضمن إطارها ولكن دخولها من «الباب الخلفي»، فهو دخول بالتبعية وليس دخولاً أصيلاً منصوصًا عليه. والحقيقة أن المبدأ التفسيرى العام (الصحيح) الذى يحكم نظرية المقاصد هو: أن يستدل على أهمية هذا الشيء من خلال ترتيبه فى سلم أولويات الشريعة، وذلك عن طريق طرق ووسائل معرفة المقصد، أما الاستدلال على أهمية أى أمر لمجرد أن الله شرع عقوبة جنائية لمن يعتدى عليه، فهو أمر يؤدى إلى إهمال قيم ومبادئ عظمى جاءت بها الشريعة لكى تستقيم حياة الناس، وكل ذلك يتم لأن الله لم يشرع حدا جنائيا فى هذه الأمور، فلا يوجد حد لجريمة الظلم، ولا يوجد حد ضد إهدار الكرامة الآدمية، ولا ضد الجرائم السياسية والاستبداد، مع أن الله سبحانه وتعالى قد حرم هذه الأشياء أكبر تحريم، ووضعها على رأس سلم أولويات الشريعة، فقد أرسل الله الرسل والرسالات لكى يخرج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله . فالبحث فى نظرية المقاصد ليس بحثًا فى عمومات الشريعة فقط، وليس كذلك بحثًا فى جانب معين منها كالاقتصاد أو السياسة أو غير ذلك، وليس كذلك بحثًا فى مفردات الأحكام الشرعية وأدلتها، بل هو بحث يربط كل هذه الأشياء ببعضها البعض، فى نسق فكرى متكامل، يوضح ويكشف معانى الشريعة العامة، وجوانبها المختلفة من حيث استقلالها بذاتها، وكذلك مع توضيح موقعها وتناسقها مع الغاية العامة للشريعة، ويوضح كذلك مقصد كل نص أو حكم شرعي، لا من حيث استقلاله بذاته أيضًا، ولكن من حيث انتظامه فى هذا النسق الفكرى الضخم. إذا تأملنا فى حياتنا العملية أقوال وأفعال من يزعمون أنهم من أهل العلم الشرعي، سنجد أن كثيرا منها يعد ارتجالا لا طائل من ورائه، وأن غالبية من يتصدرون المشهد ممن يزعمون أنهم من أهل العلم الشرعى ما زالوا يسيرون على نفس منهج قائم على ترك المقاصد الشرعية الكبرى، الاهتمام بالفروع والصغائر، دون النظر لموقع هذه الفروع فى سلم أولويات الشريعة، ودون النظر إلى النسق الكلى المتكامل الذى أنزله الله على عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور . آن الأوان لوضع مبحث مقاصد الشريعة على طاولة البحث، وآن أوان عمل الباحثين المتخصصين فى تطوير نظرية مقاصد الشريعة، وهو أمر لا يستطيع أن يقوم به سوى الراسخين فى العلوم الشرعية . هذا مبحث خطير تركه، وخطير أن يتصدر فيه أنصاف العلماء، وأشباه الباحثين، ونتمنى أن تصغى المؤسسات العلمية لهذا النداء . www.arahman.net