هل تصدقنى لو قلت لك إن محمد عبد الوهاب، ومن بعده بليغ حمدى، هما المسئولان عما وصل إليه حال الغناء، وقد أصبح عملا ومهنة ليس لها رابط!. بدأ عبد الوهاب مسيرته الفنية الطويلة والعظيمة فى عصر غناء المشايخ فى أوائل القرن العشرين. وأصبحت مسيرته خلال عمره المديد هى تاريخ الغناء العربى الحديث تظهر فيها مراحل ومحطات أثّرت بوضوح فى شكل ومضمون الأغنية. ونستطيع أن نقول إن غناء القرن العشرين انتقل من غناء الأدوار والموشحات إلى أغانى المسرح ثم إلى غناء الملاهى الليلية أثناء الحرب العالمية وبعدها إلى أغانى السينما ثم أغانى الإذاعة ثم أغنيات شركات الكاسيت. ومع كل هذه المراحل يستمر غناء العوالم فى شارع محمد على بالقاهرة ومثيله فى محافظات مصر. وعندما بدأ محمد عبد الوهاب الغناء كانت الفرق الموسيقية المستخدمة هى «التخت»الذى لايزيد عدد أعضائه على خمسة عازفين. وكان العازف والفنان لا تؤخذ بشهادته فى المحاكم. وكان أصحاب الأفراح والليالى الملاح يقدمون لهم العشاء فى المطابخ مع الخدم. وتمرد عبدالوهاب على كل هذه السلوكيات فهو تلميذ لأحمد شوقى الذى نحتفل غدا بعيد تتويجه أميراً للشعراء منذ 85 سنة. وقد علمه اللغتين العربية والفرنسية وأطلعه على بروتوكولات الناس »الهاى» فقد صحبه إلى بلاد الفرنجة لينهل من ثقافتهم وتقاليدهم ويلتزم بسلوكياتهم. وظهرت ثقافته فى علاقته بأهل المهنة. فاهتم بمظهر العازف وحفظ له سمعته وكرامته لضمان معاملته المعاملة اللائقة ثم نظر للتخت فحوّله إلى فرقة أو أوركسترا وذلك بإضافة عدة آلات من فصائل مختلفة إليه وكتب لها مقدمات موسيقية رفيعة ورشيقة طويلة أو قصيرة. وعندما بدأ عبد الوهاب الغناء، كانت القوالب الموسيقية السائدة هى الدور والمرشح والمواقف المسرحية. وكلها تعتمد على قوة الصوت وقدرته على أداء ألحان المشايخ. فطور عبد الوهاب قالب الأغنية اعتبارا من أغنية «فى الليل لما خلى» تأليف أحمد شوقى ثم الصبر والإيمان. تأليف حسين السيد وانتهاء ب «لا مش أنا اللى أبكى» تأليف حسين السيد، والمسافة بعيدة بين هذه المحطات الغنائية فى الشكل اللحنى والكلمة المستخدمة والصوت المؤدى، لحّن محمد عبد الوهاب 244 أغنية منها 212للإذاعة و56 فى أفلامه السبعة «الوردة البيضاء - دموع الحب - يحيا الحب - يوم سعيد - ممنوع الحب - رصاصة فى القلب - لست ملاكا». كما غنى فى فيلم «غزل البنات» أغنية «عاشق الروح» ثم اشترك فى الفيلم التليفزيونى «منتهى الفرح» بأغنية «هان الود» وغنى 17 قصيدة للدول العربية ولم يلتزم فى تلحينه للقصائد بقالب ثابت إنما اختلف ذلك باختلاف الموضوع والكلمات. وغنى 27 أغنية ولحّن 58 أغنية ل 46 فنانا وفنانة منها 10اغنيات لأم كلثوم و22 أغنية لعبد الحليم حافظ. ومن الصعب أن يتشابه لحن مع آخر عند عبد الوهاب، بل لم يقدم أغنية إلا وتحمل لمحة تجديد. لموسيقى متطور فاستحق عن جدارة لقب «أبو الأغنية العربية» وكتب عبد الوهاب 50 قطعة موسيقية قصيرة أو طويلة وكان الناس يحفظون ألحانها كما يفعلون فى أغانيه، وبعد أن رحل أصبحت الموسيقى العربية البحتة فى خطر. فلم نعد نسمع موسيقى بحتة لا كمقدمات لأغان ولا فى قوالب خاصة، وكانت اللزمات الموسيقية فى بداية القرن الماضى لها مهمة واحدة هى إعطاء الفرصة للمطرب ليلتقط أنفاسه فأصبحت عند عبد الوهاب جزءاً من نسيج الأغنية تصنع المتعة المسموعة كما تفعل كلمات وألحان الأغنية تماما. فى بداية مشواره فى الغناء كان يغنى مثل غيره بعضلات صوته الجميل النادر فيكثر من أداء «العُرب» (ذبذبات الصوت فى القفلات الغنائية). ثم طوّر أداءه مع مزورة بمراحل مختلفة من العمر. وحافظ على علاقة عكسية بين قوة الصوت والإحساس الفنى، فإذا تقدم العمر قلت القدرات الصوتية وتم تعويض ذلك بارتفاع درجة الإحساس، فالبساطة فى أداء عبد الوهاب ارتبطت بخبرته الطويلة فى الغناء وحلاوة الصوت والحس وهو مالم يدركه جيل المغنين المعاصرين الذين قلدوا عبد الوهاب فى بساطة الأداء وفاتهم تعويض ذلك بقوة الإحساس. كان محمد عبد الوهاب «أسفنجة» شديدة الحساسية فى امتصاص واستيعاب كل ما يتناهى إلى أذنيه العبقريتين من نغم. فكان يسمع الموسيقى الكلاسيكية العالمية، ولا يتعالى على أغانى حواس وفرج السيد ومحمد طه وشعبان عبد الرحيم، وقد يظهر صدى هذه الأعمال فى بعض موسيقاه بعد أن تدخل ورشته الفنية وإحساسه الخاص فتظهر اجمل وأرق من الأصل وهذا ما تسبب فى أن يتهمه البعض بأنه «حرامى» وهو من هذا السلوك برىء. عبد الوهاب هو السيمفونية التامة وفقدناه يوم 3 مايو 1991. وقد أعادت ثورة 25 يناير التاريخ الصحيح ليوم رحيله بعد ان اعتاد محاسيب الرئيس المخلوع على تأجيله يوما أو يومين لينعم المخلوع بعيد ميلاده بعيدا عن احزان المصريين لفقد هذا الموسيقار العظيم. والحق أن أحزان الشعب يوم 3 مايو كبيرة.. مرة لفقد عبد الوهاب ومرة بمناسبة عيد ميلاد أبو الفصاد.