من مقاهي الإسكندرية إلى مسارح القاهرة وطني يلحن ل"الصنايعية والحمالين" أكثر من 200 أغنية وطقطوقة أعدت الملف: سماء المنياوي أنا المصري كريم العنصرين ... بنيت المجد بين الإهرامين جدودي أنشئو العلم العجيب ... ومجرى النيل في الوادي الخصيب لهم في الدنيا آلاف السنين ... ويفنى الكون وهم موجودين هذه الكلمات من ألحان خالد الذكر الموسيقار الشيخ "سيد درويش" الذي استطاع بموسيقاه أن يؤثر بعمق في وجدان الناس لعشرات السنين، ولا زالت موسيقاه تحدث نفس الأثر كلما سمعت، إذ أنها تميزت بالأصالة وحسن التعبير. عامل بناء في رحلة فنية إلى الشام ولد سيد درويش بمدينة "الإسكندرية" في 17 مارس/ آذار 1892 من أبوين فقيرين. وكان قرة عينهما لأنه أول ذكر رزقا به بعد 3 بنات، وكانت شقيقتاه الأولى والثانية متزوجتين عند ميلاده وتزوجت الصغرى وهو في سن ال10. كان "سيد" طفلا مدللا وموسيقيا بالفطرة. وعندما بلغ ال5 من عمره اشترى له والده جبة وقفطان وألحقه بكتاب الشيخ "أحمد الخباشي". توفى والده قبل أن يبلغ ال7 من عمره، فنقلته والدته إلى مدرسة أهلية افتتحها شاب من أهل الحي يدعى "حسن أفندي حلاوة" حيث تلقى أول دروس الموسيقى. وكان مدرسه "سامي أفندي" مولعا بحفظ الأناشيد فلم يلبث "سيد" الصغير أن فاق جميع أقرانه في حفظها، فعينه رئيسا عليهم وظل بهذه المدرسة عامين يحفظ القرآن الكريم، ثم أغلقت المدرسة والتحق "سيد" بمدرسة "شمس المدارس"، وكان يجتمع بأصدقائه بعد انتهاء اليوم الدراسي ليذهبوا إلى مسجد "سيدي حذيفة اليماني" ويأتون بصندوق كبير من الخشب ليقف عليه "سيد درويش" وينشدهم ما كان يحفظه من ألحان الشيخ "سلامة حجازي" حيث يصفق له أهل الحي ويشجعونه. وأخذ "سيد درويش" يبحث عن مصادر أخرى لفن الموسيقى والغناء، حيث تردد على الأماكن التي تقدم الفنون في الإسكندرية - المحلى منها والأجنبي – ويحفظ ما يسمعه من أغنيات ثم يرددها على أسماع أصدقائه. تزوج "درويش" وهو في ال16 من عمره، ومن ثم اضطر إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة الجديدة وهو لم يكمل تعليمه بعد، فاشتغل عامل بناء لحساب أحد المقاولين، فإذا بهذا العمل نفسه يقوده إلى أبواب الفن، حيث يكتشف المقاول موهبته عندما سمعه يغني وسط العمال وهم يرددون غناءه. وتصادف وجود الأخوين "أمين وسليم عطا الله" - وهما من أشهر المشتغلين بالفن - في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به الشيخ "سيد درويش"، فاسترعى انتباههما جمال صوت هذا العامل، واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام عام 1909. رزق "درويش" بولده الأول "محمد البحر" يوم سفره، حيث قضى هناك 10 شهور تعرف خلالها ب"عثمان الموصلي" وحفظ عنه التواشيح. وفي عام 1912 التقى سيد درويش ب"الموصلي" مرة أخرى خلال رحلة ثانية إلى الشام مع نفس الفرقة، حيث أكمل ما كان يتوق إلى جمعه من مواد التراث، وعاد بعد عامين حاملا معه العديد من الكتب الموسيقية. من مقاهي الإسكندرية إلى مسارح القاهرة عاد سيد درويش للعمل بمقاهي الإسكندرية عام 1914 لكنه لم يكتف بتقديم ما حفظه عن الأقدمين، وبدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره "يا فؤادي"، فضلا عن أغنياته القصيرة السريعة التي أداها بنفسه وغناها غيره من المطربين. بدأ نجم الفنان الشاب الشيخ "سيد درويش" يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ "سلامة حجازي" وقرر أن يذهب للاستماع إليه بنفسه، ومن ثم عرض عليه العمل بفرقته في القاهرة، لكنه لاقى استقبالا فاترا من الجمهور الذي تعود على صوت الشيخ "سلامة حجازي"، وأصيب "حجازي" نفسه بصدمة جعلته يخرج إلى الجمهور ليقدم "درويش" قائلا إن "هذا الفنان هو عبقري المستقبل"، إلا أن الشيخ "سيد" أصيب بإحباط كبير أعاده إلى الإسكندرية في اليوم التالي. وفي عام 1917 انتقل إلى القاهرة بناء على نصيحة الشيخ "سلامة حجازي" وقدم ألحانا لفرقة "جورج أبيض" من خلال رواية "فيروز شاه"، ومنذ ذلك الحين سطع نجم "سيد درويش" في عالم الفن وصار إنتاجه غزيرا. وأصبح ملحنا لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة، حيث لحن أوبريت "الباروكة" لفرقة "نجيب الريحاني"، وقدم ألحانا عديدة لفرق "على الكسار"، و"منيرة المهدية"، وتدفق إنتاجه الغنائي حتى قيل عنه إن باستطاعته تلحين 5 روايات في شهر واحد. وطني يلحن ل"الصنايعية والحمالين" وعندما قامت ثورة 1919 كان للشيخ سيد فضل في تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغاني الحماسية، ومن أشهرها نشيد "قوم يا مصري". قوم يا مصري ... مصر دايما بتناديك خد بنصري ... نصري دين واجب عليك وفي عام 1920 أنشأ سيد درويش فرقته الخاصة وقدم أوبريت "العشرة الطيبة" تأليف "محمد تيمور" وكتب أغنياتها "بديع خيري". كما قدم أوبريت "شهرزاد" التي نظمها الشاعر "بيرم التونسي" ولاقى نجاحا باهرا أحدث انقلابا في عالم الموسيقى العربية. قرر سيد درويش بعد نجاحه أن يكتب عن الموسيقى ، فكتب للصحافة في عام 1921 مقالات موسيقية كان يقصد بها توعية الجمهور والتثقيف الموسيقي العام، واعتبر هذا الميدان - الذي لم يرتاده أحد قبله – من واجباته تجاه الرسالة الفنية التي حمل لواءها، وكان يختم مقالاته بتوقيع "خادم الموسيقى سيد درويش"، ثم قرر أن ينشر كتابا يضم نوت ألحانه، واتفقت معه إحدى الصحف على نشر الكتاب في حلقات. تمنى الشيخ "سيد درويش" أن يذهب إلى أوروبا، خاصة "إيطاليا" موطن الموسيقار "فيردى" محب مصر، كي يستزيد من العلوم الموسيقية ويقدم ألحانه في أفضل صورة، واستعد للسفر بالفعل، لكن القدر لم يمهله ووافته المنية بالإسكندرية في 10 سبتمبر/ أيلول 1923 عن عمر ناهز 31 عاما، حيث كان في استقبال الزعيم "سعد زغلول" العائد من المنفى، والذي لحن له "يا بلح زغلول". ورغم زخم أعماله الفنية إلا أن عمر "درويش" الفني لم يتجاوز أكثر من 6 سنوات. ولكل لحن لدى "سيد درويش" قصة ومناسبة، ولكل مناسبة أثرها العميق في نفسه، فأول أغنية لحنها كانت كلماتها مستوحاة من امرأة أحبها قالت "ابقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة" فكانت: زورونى كل سنة مرة ... حرام تنسونى بالمرة أنا عملت إيه فيكم ... تشاكونى واشاكيكم أنا اللى العمر أداديكم ... حرام تنسونى بالمرة ومن أغنياته الوطنية، اقتبس عبارات من أقوال الزعيم "مصطفى كامل" وجعل منها مطلعا لنشيد، اتخذ – بعد 19 عاما من رحيل درويش - نشيدا وطنيا لمصر منذ قيام ثورة يوليو وحتى الآن، وهو: بلادي بلادي ... لك حبي وفؤادي مصر يا أم البلاد ... أنت غايتي والمراد وعلى كل العباد ... كم لنيلك من أيادي وانتقد "سيد درويش" تجنيد الشباب بالقوة لخدمة الجيش البريطاني فقال: يا عزيز عيني ... وأنا بدي أروح بلدي بلدي يا بلدي ... والسلطة خدت ولدى وتناول الشيخ "سيد" في أغنياته المشكلات الاجتماعية مثل غلاء المعيشة والسوق السوداء، فتميزت ألحانه بالبساطة بحيث تمكن المواطن البسيط من حفظها وترديدها. ومن ألحانه الشهيرة ذات الكلمات السلسة والألحان المتميزة التي تلتصق بإذن المستمع من المرة الأولى أغنيات "البرابرة"، و"الصنايعية"، و"الحمالين"، وغيرها. وموضوعات الأغنيات التي يختارها "سيد درويش" لم تكن تقليدية، فلم ينساق وراء أغاني الحب والهجر فقط، بل اخترق الحياة اليومية للشعب ولحن أغنيات لجميع الطبقات مهما كانت بسيطة والتي عبرت عنهم بالفعل. وكان ل"سيد درويش" مايسترو إيطالي يدعى "سنيور كاسيو" هو قائد الأوركسترا التي أدت ألحانه المسرحية حية على المسرح، حيث استبدل التخت الشرقي بالأوركسترا الغربي. أكثر من 200 أغنية وطقطوقة أضاف الشيخ "سيد درويش" مقاما موسيقيا جديدا للموسيقى الشرقية أسماه "الزنجران" أبدع منه أحد أدواره، ولحن منه الأساتذة اللاحقون. وتنوع إنتاجه ليشمل أنماطا عديدة من التأليف الموسيقي أثبت من خلالها أن كل شيء مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى ما مدام هناك فكرة ورأى. ومن أشهر "الطقاطيق" التي لحنها "يا ورد على فل وياسمين"، و"يا عشاق النبي"، و"طلعت يا محلا نورها"، و"سالمة يا سلامة"، و"زوروني كل سنة مرة"، و"الحلوة دي". ومن أشهر "المونولوجات" التي لحنها "مصطفاكي"، و"الله تستاهل يا قلبي"، و"يقطع فلان على علان". كما لحن "سيد درويش" 22 نشيدا وطنيا منها "بلادي بلادي"، و"أنا المصري"، و"قوم يا مصري"، و"مصرنا وطنا سعدها أملنا"، و"دقت طبول الحرب يا خيالة". ولحن أيضا 10 أدوار منها "أنا عشقت"، و"ضيعت مستقبل حياتي"، و"أنا هويت وانتهيت"، و"الحبيب للهجر مال". كما قام بتلحين العديد من الأعمال المسرحية. وهناك أكثر من 200 لحن لم تتكرر فيها جملة موسيقية واحدة، وفيها من اختلاف المواقف ما يكفى لعرض حالات الشعور الإنساني كافة وكيفية التعبير عنها. وبلغ إنتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار و40 موشحا و100 طقطوقة و30 أوبريت ورواية مسرحية. كانت موسيقى الشيخ "سيد درويش" معبرة تماما عن إحساس ومزاج الشعب المصري الذي حرم طويلا من ممارسة الفنون الراقية نتيجة الاستعمار التركي العثماني الذي احتكر فن الموسيقى وصبغها بصبغته وقصر ممارستها على الطبقات الإقطاعية وأفراد الأسر المالكة. وكانت أغنية "مصطفاكي" تعبر عن تلك الفترة، وكان لهذا العمل ظروفا خاصة، فبعد أن تخلص الإنجليز من السلطان "عبد الحميد" رأس الدولة العثمانية وقاموا بتولية "كمال أتاتورك" الذي كان قائدا لإحدى الفرق العسكرية التركية وقعت معركة بين الجيش التركي بقيادة "أتاتورك" والجيش اليوناني انتصر فيها الجيش التركي فأبدع "سيد درويش" في لحن وأداء أغنية "مصطفاكي" عام 1912 وهي من تأليف "بديع خيري". النخاردة بكره بعده إخنا نمسك أناضول ... كدابين كدابين مصطفاكي بزياداكي زانقة رومي خانقة فوس غوناريس تحت البواكي وياسجان الديوس ... هربانين هربانين في أثينا مافيش دراخمة عسكرية في أنام بس شاطرين ياكلوا لخمة من كماليدس يخاف ... معذورين معذورين لقب "سيد درويش" ب"مجدد الموسيقى العربية"، وهو اللقب الذي يستحقه عن جدارة نظراً لطابع ألحانه المتميز الذي كان مختلفاً عن السائد وقتها، فسار على نهجه كبار الملحنين في القرن ال20، مثل "محمد القصبجي"، و"زكريا أحمد"، و"محمد عبد الوهاب"، و"رياض السنباطى"، وقد أحدثت تلك الألحان ثورة جديدة في الذوق العربي الموسيقي. وخلق الشيخ "سيد" من الفن الشعبي فنا راقيا، حيث أخرجه من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والمقاهي وردد الناس أناشيده في المظاهرات. "سيد درويش" لم يعتبر نفسه محترفا إنما هاويا إلى درجة العشق - عشق الفن والجمال والحرية والتعبير - ولم يكن الفن عنده مهنة لكسب القوت وإنما رسالة سامية وواجب وطني، ويذكر عنه رفيق دربه "بديع خيري" أنه عندما عانت فرقته من مصاعب مادية كان ينزل إلى وسط البلد وهو مفلس فيسمع ألحانه تقدمها الفرق الأخرى فيعود إليه إحساسه بالسعادة وينسى ما كان فيه من هم. لم ينشأ الشيخ "سيد درويش" فى أسرة فنية ولم يجد أحدا يساعده على السير في اتجاه الفن، بل على العكس لقي العنت والتعنيف والإكراه على عمل أشياء لم يجد فيها إحساسه بذاته، وفي ظل ظروف معيشية غاية في القسوة كان الفن بالنسبة لمثله ترفا لا يمكن لمسه، لكنه استطاع بفنه أن يبقى في وجدان الشعب لعقود طويلة.