أكاد أزعم أن قانون تنظيم المجالس المحلية يمثل أبرز ملامح النظام السوفيتى الباقية فى مصر، على الرغم من انتهاء عهد الاتحاد السوفيتى، وأبادر بالتحفظ والقول بأن النظام السوفيتى لم يكن شرا كله، لكن تنظيم المجالس المحلية على النحو المأخوذ به فى الاتحاد السوفيتى يمثل فتحا لا نهاية له لأبواب الفساد، والفساد المقنن، والإفساد المتعمد. ومع هذا فإن فى مصر كثيرا من المجالس المحلية الممتازة والمميزة التى أدت للوطن كثيرا من الإنجازات على مستوى محلياته، وإن كانت خبرتى بالمحليات فى وطنى الصغير لا تتيح لى أن أعمم الحديث عن نجاحها وصلاحها على مستوى الوطن الكبير، ذلك أن نظام المحليات نفسه يميل إلى الفساد، كما يميل نظم السيارة الفرنسية إلى السرعة، وكما يميل نظام السيارة الإنجليزية إلى البطء، أى أن هذا الميل طابع مسيطر على الصناعة فى جزئياتها المختلفة وفى توجهها العام. وكيف بالإنسان المقيم فى قرية من القرى وهو مطالب فى انتخابات المحليات بأن ينتخب ممثلين لقريته فى الوحدة المحلية التى تتبعها، ثم أن يختار ممثلين على مستوى المركز، ثم ممثلين ثالثين على مستوى المحافظة، وفى كل من هذه المستويات الثلاثة هو مطالب بالحفاظ على 50% للعمال والفلاحين، ومطالب بالالتزام بعدد معين فى كل مجلس من هذه المجالس وإلا فقد صوته، وأكاد أجزم أنى مع ما أتمتع به من علم وقدرة على الالتزام بالنظام، لا أضمن أن أحافظ على سلامة صوتى فى مثل هذه الانتخابات المعقدة. ننتقل بعد هذا إلى المجالس بعد أن تم انتخابها، كيف يمكن لى أن أتصور حدود اختصاصها؟ وهل تعديل هذا الشارع الكبير من أجل مصلحة الجماهير يخضع لمجلس المحافظة أم لمجلس المركز أم لمجلس الوحدة المحلية؟ وكيف يمكن حسم تنازع الاختصاصات إذا ما صدرت قرارات متعارضة عن مستويين من هذه المستويات؟ وهل للمجلس المحلى على مستوى المحافظة سلطة على المجلسين الآخرين؟ وهل هو ملتزم بما يصدره المجلسان الأدنى منه درجة؟ أم أن من حقه على الإطلاق أن يتخذ قرارات حاسمة تبعا لموازنة المحافظة ونظامها؟. لاشك فى أن كثيرا من هذه الأسئلة والاستفسارات تفرض نفسها حول طبيعة عمل المجالس المحلية بنظامها الحالى، لكن هذه الأسئلة تتراجع وتتلاشى لأن المجالس بوضعها الحالى ليست مطالبة بعمل منهجى، وإنما هى منشغلة فى المقام الأول والأخير بمحاولة تقديم التسهيلات والتيسيرات للجماهير الكادحة التى لا تزال تعانى من تعسف الأجهزة التنفيذية، وكأن هذه الأجهزة تنتمى لدولة احتلال وليس لدولة وطنية، وكأن هذه الأجهزة التنفيذية تبتغى عقاب المواطنين لا خدمتهم، وتبتغى تسويد الحياة أمام أعينهم لا إسعادهم بالحياة، وكأنها تبتغى الحصول على الأموال تحت دعاوى مختلفة من الرسوم المحلية، بينما واجبها فى المقام الأول هو رفع مستوى الخدمات المتاحة أمام الجمهور. وفى مواجهة هذا كله فإننى لا أتصور للمحليات صورة أفضل من النظام المأخوذ به فى العالم المتحضر، وعلى سبيل المثال فإن الرئيس الأمريكى الحالى أوباما نفسه بدأ صعوده السياسى منذ سنوات قلائل حين انتخب عضوا فى مجلس البرلمان المحلى الخاص بالولاية التى ينتمى إليها فى شيكاغو، وكان هذا تمهيدا لفوزه بعضوية مجلس الشيوخ الأمريكى عن هذه الولاية التى يمثلها، شأن كل ولاية أمريكية، عضوان فى مجلس الشيوخ. هل يعنى هذا أن عضوية البرلمان المحلى تمهد لعضوية لاحقة فى البرلمان القومى؟ بالطبع: نعم.. ولكن هذا ليس شرطا ولا هو ترتيبا، وإنما هو شىء منطقى فى ظل السياسات البرلمانية على مستويين، مستوى محلى ومستوى قومى، أما النظام السوفيتى الذى تأثر به تشريعنا الحالى فقد تصور أن من الضرورى أن يتحقق هذا التمثيل على أربعة مستويات بما يضمن شغل الجماهير على مدى زمن طويل، وأن يخلق توازنات تمثيلية وأن يهيئ لتكوين جماعات قادرة على التنسيق، والتربيط، والتصعيد، وتقسيم المغانم. بقى السؤال المهم: هل عرفت مصر نظاما مثاليا للمحليات فى حقبتها الليبرالية؟ والإجابة: نعم.. كانت هناك مجالس مديريات فاعلة وفعالة. والسؤال الثانى: هل نجحت هذه المجالس فى أداء دور تنموى؟ والإجابة مرة ثانية: نعم.. نجحت وحققت كثيرا من الإنجازات للأقاليم حتى أنها كانت المسئولة عن النجاح البارز فى النهضة التعليمية التى شهدها كثير من أقاليمنا. بل إن طوائف كثيرة من المدرسين كانت تتبع المديريات ولا تتبع الحكومة المركزية، وفى بعض الأحيان فإن التبعية لمجالس المديريات كانت تتيح فوائد مالية ووظيفية تفوق تلك المتاحة من النظام المركزى، والعكس صحيح بالطبع. لكن الطريف فى الأمر أن التبعية القديمة كانت تبعية مسئولية حقيقية، أما الآن فإن نظام الحكم المحلى كما نقول عنه فى بعض الأحيان أو الإدارة المحلية كما نقول عنه فى أحيان أخرى لا يتيح إلا تبعيات مظهرية تتيح للمحافظ أن يجأر عند اللزوم فى وجه الوزير وبخاصة إذا كان الوزير من النوع الفاسد الذى شهدته مصر فى سنواتها الأخيرة.