مثلما كان وصول الرئيس المخلوع حسنى مبارك إلى قمة السلطة فى مصر عام 1981 مصادفة تاريخية بعد «تراجيديا» اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات وسط جيشه فى احتفاله بالذكرى الثامنة لنصر أكتوبر فى حادثة هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر الحديث، فإن سقوطه فى الحادى عشر من فبراير الماضى كان مفاجأة «دراماتيكية» بعد ثورة 25 يناير.. الأولى من نوعها أيضا فى التاريخ المصرى منذ آلاف السنين.. وما بين مصادفة صعود مبارك ومفاجأة سقوطه.. قصة طويلة طالت إلى درجة الملل وبأكثر مما يجب وامتدت لنحو ثلاثين سنة. ولأن الغالبية العظمى من المصريين الذين شهدوا أو صنعوا الثورة كانوا فى رحم الغيب لم يولدوا أو كانوا أطفالا عندما تولى مبارك حكم مصر، ولم يشهدوا ولم يعلموا كيف ولماذا صار رئيسا، ولأن أجيال الشيوخ والكبار التى شهدت مجيئه للحكم باتت تتعجب الآن وتتساءل: كيف استمر ثلاثين سنة؟ ولماذا تأخرت الثورة كثيرا؟ لذا فإن قصة صعود مبارك وسقوطه يتعيّن أن تروى للأجيال الحالية لتبقى ماثلة فى الأذهان محفورة فى ذاكرة مصر حتى لا يتكرر نموذج مبارك ونظامه الفاسد مرة أخرى. *** واقع الأمر فإن قصة صعود مبارك لم تبدأ فى يوم السادس من أكتوبر عام 1981، ولكن البداية الحقيقية كانت قبل ذلك بسنوات وتحديدا فى (15) أبريل عام 1975، عندما فاجأ الرئيس الأسبق أنور السادات شعب مصر بتعيين الفريق حسنى مبارك قائدا للقوات الجوية نائبا لرئيس الجمهورية، ورغم أن هذا المنصب كان يشغله حسين الشافعى (أحد أعضاء قيادة مجلس ثورة يوليو) منذ وفاة الرئيس عبد الناصر إلا أنه لم يصدر قرار صريح بإقالته، ولكن بدا ذلك مفهوما ضمنيا، حيث تم إغفال ذكره فى قرار السادات الذى صدر تحت عنوان «إعادة تنظيم الدولة» متضمنا تعيين مبارك (دون إشارة لحسين الشافعى) وتشكيل حكومة جديدة، ومن المثير أن الشافعى ظل يردد حتى رحيله قبل سنوات أنه لا يزال نائبا إذ لم يصدر قرار رسمى بإقالته! *** كان مبرر السادات لتعيين مبارك نائبا له هو تكريم من أسماهم جيل أكتوبر من قادة تلك الحرب وذلك العنصر، ولكن اختصاص مبارك بذلك التكريم وهذا المنصب الرفيع كان مثار الكثير من الدهشة والعديد من التساؤلات، إذ لم يكن مبارك الأفضل أو الأكفأ أو الأنسب عسكريا وسياسيا مقارنة بقادة أكتوبر الآخرين أمثال المشير الجمسى والفريق محمد على فهمى والفريق الماحى وغيرهم من القادة، خاصة وأن مبارك بشهادة القادة والسياسيين فى ذلك الوقت كان يتسم بضحالة الفكر وانعدام المعرفة أو الخبرة أو الرؤية السياسية وبما لا يؤهله لهذا المنصب، وهو الأمر الذى جعل الخبثاء من السياسيين والعسكريين يقولون وقتها إنه لهذه الأسباب اختاره السادات وأن تلك الصفحات السلبية كانت مسوغات تعيينه فى منصب الرجل الثانى فى الدولة! من المثير أن مبارك ذاته لم يكن يتوقع أو يحلم بهذا المنصب الرفيع الذى لا يمتلك مقوماته، وكانت أقصى أمانيه يكرّمه السادات بتعيينه سفيرا أو رئيسا لشركة مصر للطيران! *** وبينما اعتبر العديد من قادة حرب أكتوبر أن اختيار مبارك نائبا للرئيس بدعوى تكريمهم جاء اخترالا مخلا لهذا التكريم، فإن هذا الاختيار كان بمثابة رسالة لها مغزاها وانتهاء دور هؤلاء القادة بعد إحراز النصر، حيث تمت إقالة المشير الجمسى وزير الحربية رغم تعهد السادات فى مناسبات كثيرة بأنه باق مدى الحياة، وهنا ثمة ملاحظة مهمة وهى أنه بخروج الجمسى تغيّر اسم وزارة الحربية إلى وزارة الدفاع فكان الجمسى آخر وزير حربية، وكان كمال حسن على أول وزير دفاع فى مصر، وهو تغيير لا تخفى دلالته وفلسفته التى تتفق مع مقولة السادات بأن حرب أكتوبر آخر الحروب. وأذكر أن المشير الجمسى الذى ظل يشعر بمرارة شديدة بسبب إبعاده وإقالته قد عبر عن هذه المرارة فى حديث صحفى لمجلة عربية كانت تصدر فى لندن وقتها بقوله: لقد أخرجنى السادات من الجيش يوم (4) أكتوبر وقبل احتفالات النصر بيومين، وأقالنى من منصبى كوزير للحربية كما لو كنت وزير الصحة فى بريطانيا، وهى عبارة بقدر ما تعكسها من مرارة فإنها أيضا ذات مغزى كبير وتعنى الكثير. ومثلما حدث مع الجمسى فإن قادة أكتوبر الآخرين تم إقصاؤهم تدريجيا فى إشارة واضحة لانتهاء دورهم تماما مثلما يحدث فى أعقاب الانقلابات العسكرية والثورات، حيث يحصد الغنائم الأقل دورا وتضحية وجهدا ومقدرة ويتوارى أصحاب الدور الحقيقى الكبير. أما الفريق سعد الدين الشاذلى وإن كان السادات قد أقاله أثناء الحرب بسبب خلافات وجهات النظر الخاصة بتطورات الحرب خاصة بعد واقعة الثغرة، ثم أبعده نهائيا عن مصر سفيرا فى البرتغال ثم الجزائر إلا أنه لم يسلم من انتقام مبارك بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية وتلك قصة أخرى مؤسفة سيأتى ذكرها لاحقا. *** وطوال أكثر من ست سنوات أمضاها فى ممارسة مهامه كنائب لرئيس الجمهورية.. كان حسنى مبارك موضع سخرية وتهكم ليس من جانب المسئولين والوزراء فقط، ولكن أيضا من جموع المصريين الذين وصفوه ب «البقرة الضاحكة» إذ كان يفتقد القبول والحضور وتبدت بوضوح ضحالته السياسية والثقافية، وكان يؤدى المهام الخارجية التى يكلفه بها السادات أداء ساعى البريد وهو ما كشفه المسئولون والرؤساء العرب والأجانب الذين التقوا به فى عواصمهم كنائب للسادات. هذه الضحالة السياسية والثقافية تأكدت من خلال أول حديث صحفى له كنائب للرئيس أجراه معه الصحفى الكبير الراحل موسى صبرى ونشر فى جريدة الأخبار التى تصدر صفحتها الأولى فى العنوان الرئيسى (المانشيت) عبارة: أنا تلميذ فى جامعة السادات، وكانت هذه العبارة هى إجابته عن سؤال: ماذا استفدت من مدرسة السادات السياسية، وسواء قالها نفاقا أو كانت حقيقة، فإن إجابته عن بقية الأسئلة أكدت أنه لا يصلح تلميذا فى مدرسة إعدادية، خاصة عندما قال إنه لم يقرأ فى حياته كتابا واحدا، ولكنه بعد أن صار نائبا للرئيس فإنه بدأ يطالع عناوين الصحف! وكان ذلك الحديث الصحفى الذى استهدف تقديمه للمصريين وللرأى العام فضيحة سياسية مدوية لاشك أنها أعجبت السادات، فقد كان لا يريد بجانبه نائبا واعيا أو فاهما! هذه الضحالة كانت أيضا موضع سخرية وتهكم هامس ومكتوم داخل أروقة الحزب الوطنى بعد أن عينه السادات نائبا لرئيس الحزب، ولو كان الدكتور فؤاد محيى الدين حيا الآن لكان قد حكى الكثير عن تلك الضحالة الفاضحة الفادحة لمبارك التى كشفتها آراؤه ومناقشاته فى اجتماعات الحزب التى كان يترأسها! *** بل إن الرئيس السادات ذاته كان دائم السخرية من نائبه مبارك والتهكم عليه سرا وعلانية، وقد حدث أثناء قيامه بمهمته فى الولاياتالمتحدة أن أمر السادات أحد كبار الصحفيين المقربين منه جدا أن يوقظ مبارك من النوم، وحيث كان الوقت بعد منتصف الليل بتوقيت واشنطن ليبلغه رسالة مهمة، أما الرسالة فكانت بالحرف الواحد «يا سيادة النائم» الرئيس يسألك هل أخذت الدواء؟.. ها.ها. ها، ولأن السادات كان جادا وصارما فى أمره للصحفى بإبلاغ هذه الرسالة، فقد نفذ الأمر مبديا شديد أسفه واعتذاره ولكنها أوامر الرئيس!! ولقد كان لهذه الواقعة أثر سيىء فى العلاقة بين هذا الصحفى الكبير ومبارك فيما بعد وبعد أن أ صبح رئيسا، ومن المفارقات أو لعلها من استشرافات السادات أن مبارك الرئيس السابق دخل قفص المحاكمة (نائما) على سريرا. *** غير ما حدث فى المشهد السياسى المصرى مع بداية عام 1981 وقبل أشهر معدودات من اغتيال السادات يظل فصلا مهما من فصول قصة صعود مبارك.. لا تزال أسراره خافية وربما كانت خطيرة إذ بدأت تتسرب أنباء عن اعتزام السادات إقالة مبارك وتعيين نائب آخر بعد أن تأكد عدم صلاحيته كنائب أو كرئيس لاحقا، وكانت التسريبات ترشح منصور حسن وزير الثقافة والإعلام ووزير رئاسة الجمهورية قبل ذلك. ولكن لماذا تأخر قرار السادات بإقالة مبارك وتعيين منصور حسن؟ البقية فى العدد القادم.