في فيلمها الروائي الطويل الأول «امرأة شابة» تقدم المخرجة الفرنسية ليونور سيراي صورة رسمت بحساسية بالغة وتفهم وتعاطف كبيرين لشابة في بدايات الثلاثين من العمر، هي شابة قد يربكنا تخبطها، وقد نود لو أننا نوقفها عن صياحها الغاضب في بداية الفيلم، لنقول لها إنه آن الأوان لأن تنضج، ولكننا في الوقت ذاته نتفهم غضبها ونتفهمها عبر رحلتنا مع الفيلم. قلب الفيلم النابض ومحوره هو الثلاثينية ذات الشعر الأحمر بولا، التي تلعب دورها بطاقة إبداعية متفجرة وبحضور طاغ لاتيشا دوش، التي تجد نفسها في مواجهة حياة يباغتها عدم قدرتها على التعامل معها، فلا تجد ملاذا إلا في الصياح في الجميع، حتى من يحاول مساعدتها. نجد بولا في بداية الفيلم تناطح الحياة حرفيا، ففي لقائنا الأول بها على الشاشة، نجدها تصيح بغضب وتضرب رأسها بقوة في أحد الأبواب، حتى تصاب ويدمى رأسها. بولا مزيج من الغضب والتناقضات التي تزعجنا، والتي نتعاطف معها في آن. نراها تحمل غضبها وإحباطاتها ومحاولاتها للعثور على نفسها، كما تحمل القطة البيضاء التي ليست لها، ولكنها تعتبرها جزءا منها، تحاول التخلص منه أحيانا ولكن لا تلبث العودة له مجددا. تمضي أياما تتقاذفها المنازل والطرقات والملاهي في باريس، محاولة جمع شتات نفسها والتوصل إلى نضج لم تصله بعد، هي رحلة تتحول فيها من فتاة يعوزها الكثير من الفهم للحياة إلى امرأة تمسك بناصية حياتها. ترسم سيراي، التي كتبت أيضا سيناريو الفيلم والتي حصلت على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان 2017 عن الفيلم الذي يعرض حاليا في دور العرض اللندنية، شخصية بولا، لتبدو لنا كما لو كانت تعيش مراهقة دامت طويلا أكثر مما ينبغي، في ثورة فورة صبا امتدت فجاوزت الحد. هي لا تعرف الحياة ولا تعرف باريس، التي وجدت نفسها فيها بمفردها على حين غرة، فقد انفصلت مؤخرا عن صديقها الذي يكبرها في العمر والثروة والمعرفة، ذلك المصور الشهير الذي أغرم بها وهي في صباها، وحملها معه في أسفاره إلى أمريكا اللاتينية أعواما لتكون حبيبته وملهمته، ولكنه عاد إلى باريس لينفصل عنها، ليتركها في مواجهة حياة لم تواجهها من قبل دونه، وفي مدينة لا بيت لها فيه ولا مصدر دخل. تجد نفسها فجأة بلا مأوى ولا قوت ولا سند ولا هوية حقيقية أو شخصية تفهم مكوناتها. لكن أزمة بولا الحقيقية ليست في العثور على المأوى والطعام، بل العثور على ذاتها وفهم من هي. بولا ذات تكوين وراثي مختلف، وهو ما اختارته سيراي عمدا في الفيلم، فهي تحمل ذلك التركيب الوراثي النادر لشخص تحمل كل عين من عينيه لونا، فلها عين زرقاء والأخرى بنية، وهو وصف دال تماما على شخصية بولا، فهي تنظر للدنيا بمناظير متعددة، أو فلنقل إنها لم تحدد بعد كيف تنظر للحياة أو كيف تجد لنفسها مغزى أو هوية محددة. عين زرقاء والأخرى بنية، يجعلان الناظر إليها يحدق فيها ملياً، ولكنه لا ينفر منها على اختلافها، فهي جميلة رغم اختلافها، أو فلنقل بسبب اختلافها هذا. هي في مرحلة التجريب بحثا عن هوية، تجرب أعمالا مختلفة وشخصيات مختلفة علها تستقر عند هوية ما. تقابلها فتاة في المترو تظن أنها «سارا» التي كانت صديقتها في أيام الطفولة في المدرسة، فتصبح سارا لعدة أيام وتتقبل الاسم والصداقة والهوية. تحاول رسم ملامح لشخصيتها لتتلاءم مع الأجواء التي تجد نفسها فيها. رغم حياتها التي تشبه الدوامة الصاخبة، نجدها تصف نفسها بأنها هادئة متأنية ومنظمة في مقابلة للحصول على عمل هي في الواقع لا تكذب ولا تنتحل شخصيات، ولكنها تحاول فهم ذاتها عن طريق تبني شخصيات أخرى. بولا غريبة في مدينة غريبة عنها، مدينة تتحدث لغتها في بلد هو موطنها الأصلي، ولكنها تشعر بالانفصال التام عنه وعن نفسها فيه. هي مزيج صاخب من الصفات والسمات التي تبحث لنفسها عن إطار يجمعها. نراها يوما في حفل تنكري وقد خطت شاربا وهميا على وجهها، وهذا بالضبط ما تقوم به في حياتها: ترسم صورة تنكرية لنفسها علها تجد فيها حقيقة ذاتها. نراها تتبنى هويات مختلفة، وترسم لنفسها صورا مختلفة.