في الجزائر، الجميع يتكلم في الوقت نفسه، الأصوات تتداخل في ما بينها، والصراخ يطغى على الحوار الهادئ. كل فكرة يُرفقها صاحبها بصوت عالٍ، فكلما فتح أحدهم فاهه على اتساعه ازدادت قوته في التأثير، ويرد عليه خصمه، في الجهة المُقابلة بالطريقة ذاتها. هكذا تتحول الساحة تدريجياً، إلى سمفونية صراخ بإيقاع واحد ومُتسارع، والغلبة فيها لا تكون سوى لصاحب النفس الأطول، واللسان الأكثر حدة، وليس لصاحب الحجة والدليل. هذا ما يحدث أمام الأعين، في المقاهي والشوارع، على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، الكل يتكلم ولا أحد يملك وقتاً للاستماع للآخر، فالجزائري، بطبعه، يتقن فن الكلام لا فن المُحاورة، يحب أن يكون في زاوية المتكلمين لا في زاوية المُنصتين، لكن هذا الأمر ليس استثناءً، قد نجد الأمر كذلك في أمكنة أخرى ومجتمعات مُجاورة، الاستثناء هو أن النخبة السياسية نزلت، في الفترة الأخيرة، إلى الدرك الأسفل، تبنت «الصراخ» في كلامها، وامتهنت «الديماغوجيا»، طور السياسيون قاموس الشتم والذم وراحوا يرددون ما يُريد الآخرون سماعه، ويُبالغون في تدوير «شعبوية» سمجة، يمدحون من يُريد الناس مدحه ويذمون من يريد الناس ذمه. في الجزائر، من الصعب أن نصنف النخب السياسية، يميناً أو يساراً أو وسطاً، فهذه تقسيمات تقليدية، اضمحلت، منذ عقود، والفوارق بين السياسيين، وأتباعهم ممن يُحسبون على النخبة المثقفة، تقوم على حساب «جرعة» الديماغوجيا، في كلامهم وفي خطاباتهم المكتوبة، هكذا يُمكن أن نصنفهم بين أحزاب «قليلة الديماغوجيا» وأخرى «مُضاعفة الديماغوجيا»، المنطق لم يعد من أولويات النخب النشيطة، في البلد، والعقلانية ليست من اهتماماتهم، يعنيها، بالدرجة الأولى، أن تسير في مجرى «العامة»، يهمها أن تلوك كلاماً يُوافق ميول الغالبية، من الشعب، ولا ضرر إن كان ذلك يتعارض مع قيم الجمهورية، ويُخالف تشريعات دستور الدولة. ازدهار «الديماغوجيا»، في السنوات الأخيرة، هو نتيجة طبيعية وحتمية، للتحولات التي مر بها المجتمع، فالمواطن يعتقد، في داخله، أنه جرب وصفة «الديمقراطية» (مع العلم أنها كانت ديمقراطية غير أصلية، مستوردة من مصانع مزيفة)، ولم يجد فيها حلولاً سريعة لمشاكله اليومية، شغلا، سكنا، إلخ. بالتالي لجأ إلى خطابات الشعبويين، ارتمى في أحضانهم، بدون مُساءلة، وراح يصفق لهم، ويحرض النخب على ممارسة ديماغوجيتها، لأنها توفر له «مُسكناً» لحظياً، «صك أمان» يُحيله إلى التوهم والانغلاق على الذات، كي لا ينظر إلى الواقع، لا ينتبه إلى حاله، ولا يجدد أحزانه إزاء ما وصل إليه من هزائم نفسانية. الديماغوجيون، هم الوحيدون الذين تعلموا التلصص على العامة، ثم إسماعها ما يُشبع كبتها، علموا الجزائري أن يلعب دور «الضحية»، فتقمص هذا الدور يخفف من آلامه، هو ضحية مؤامرة، ضحية أيادٍ خارجية، ضحية غيرة وحسد الآخرين، وفي أحيان أخرى هو ضحية البيئة والسماء، إذا امتنع المطر عن الهطول، فالسبب هو النفوس غير الصافية، وإذا أمطرت، وغرقت مدن البلاد، في الوحل والمستنقعات، فالسبب هو النفوس الكافرة، التي لا تُريد خيراً بالعباد، هذا الخطاب العاطفي، الذي يستهدف أحاسيس المتلقي، وليس عقله، تنامى، بشكل لافت، في البلد، فالساسة، ومن والاهم من زمرة المثقفين، يهمهم أن ينفعل المتلقي، وهو يستمع إليهم، فرحاً أو حزناً، أن يضحك أو يدمع، المهم أن يتحرك قلبه، ولا يبحث عن تفسيرات أو حجج أو تبريرات منطقية، فالجزائري تعب من التفكير والتأويل، يُريد كلمات سهلة وحلولاً ميسرة، يُريد أن يقول له أحدهم: أنت بخير، وكل ما يحصل فإن السبب فيه هم أطراف تحسدك على النعم التي أنت فيها. ما هي النعم التي يعيش فيها الجزائري؟ غلاء المعيشة، تردي حال التعليم، اللامساواة وسطوة المعتقد على العقل! الديماغوجيون يوهمون الجزائري أن بلده هو أفضل البلدان، أن العربية هي لغة الدنيا والآخرة وأن الأمازيغية تهدد الوحدة الوطنية، أن هجرة الأفارقة إلى الجزائر تهدد استقرار البلد وأن الانتفاض ضد الحاكم، مثلما فعلت شعوب أخرى، يقود إلى الفوضى، يكررون على سمعه أنه جاء من تاريخ مجيد، وأن «حساداً» تآمروا عليه، ولن يعود له مجده إلا إذا صوت لهم في الانتخابات، وسار بوصاياهم، وعلى نهجهم، في انتخاب الرجل، الذي يرونه الأنسب في حكم البلاد. أكثر الديماغوجيين نجاحاً هم أكثرهم قدرة على رد صدى الجموع، من يمتلك قدرة على إعادة سرد «عجز» العامة، وإسماعهم خيباتهم، التي يرددونها، في السر، ويعيشونها كل يوم، سيحوز حظوة، ويجد أكبر عدد ممكن من الأتباع، فالديماغوجي لا بد أن يكون متكلما جيداً، لا يحتاج إلى تعلم فن الإقناع، بل يحتاج فقط إلى تكرار خيبات المستمعين، وتذكيرهم بها. ظاهرياً، الديماغوجيا هي نقيض الديمقراطية، هي فيروس المنطق، لكنها في الجزائر تصير «مكملاً سياسياً وثقافياً»، بدون ديماغوجيا لا تحلو حياة بعض الناس، في غيابها تفقد الخطابات معانيها، ويشعر الكثيرون بالنقص. الديماغوجيون الذي يملأون شاشات التلفزيون، ومواقع التواصل الاجتماعي، احتلوا أخيراً البرلمان، نصّبوا أنفسهم نواباً عن الشعب، مُمثلين للنوايا الحسنة، أسكتوا الجميع ومنحوا أنفسهم الحق الوحيد والمُطلق في الكلام، وكل شخص يفكر في معارضتهم، أو الرد عليهم سيتهمونه بمعاداة الوطن والوحدة القومية، ويلصقون به تهم المساس بالدين والخيانة، والتعامل مع قوى أجنبية. قبل أيام، في خرجة إعلامية غريبة، دعت جمعية ثقافية، في الجزائر، تستفيد من مال الخزينة العمومية، ومن هياكل وبنايات القطاع العام، إلى مسابقة شعرية «في مدح مسجد الجزائر الأعظم». المشكلة ليست هنا، فمن حقها تنظيم ما شاءت من مسابقات وماراثونات شعرية، لكن المشكلة أن المسجد غير منته، كيف نمتدح شيئاً غير مكتمل؟ وحين ينتهي سيحمل اسم شخصية سياسية، وليس دينية أو ثقافية. بالتالي، فالمديح سيصب لا محالة في صالح الشخص، الذي سيُرفع اسمه على واجهة المسجد مستقبلا. وحين انتقد البعض هذه المسابقة الغريبة، راح أنصار الجمعية نفسها يصفونهم بمعاداة الدين، والإساءة للإسلام. هكذا إذن، كلما بدأ حوار جاد في الجزائر، سرعان ما يتحول إلى صراخ، وتنابز بالألقاب، وتصير المناقشة عراكاً، حيث كل واحد من المتخاصمين، يرد على الآخر باسم القومية والوطنية والدين وحب الوطن، لتضيع القضايا الأساسية، في زحمة الديماغوجيا. من البداية، تأسست الجزائر الحديثة، على ديمقراطية هشة ورخوة، في وقت كنا ننتظر فيه أن تستقيم، ظهر الديماغوجيون، وتكاثروا في وقت قياسي، ما يعني أن الأمور ستظل تراوح نفسها، بل ستزداد سوءًا، على الأقل في الأعوام المقبلة.