عيار 21 بالمصنعية يهبط 90 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الخميس 31-7-2025 (محلياً وعالميًا)    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع كوريا الجنوبية    أمريكا: تحذيرات في كريسنت سيتي بعد أضرار بميناء المدينة جراء موجة مد بحري مفاجئة    «يوم استثنائي».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ورياح مُحملة بالأتربة    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إسرائيل تندد بموقف كندا من الاعتراف بفلسطين: مكافأة لحماس    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    نحن ضحايا «عك»    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسم «الديماغوجيا» في الجزائر
نشر في صوت البلد يوم 21 - 02 - 2018

في الجزائر، الجميع يتكلم في الوقت نفسه، الأصوات تتداخل في ما بينها، والصراخ يطغى على الحوار الهادئ. كل فكرة يُرفقها صاحبها بصوت عالٍ، فكلما فتح أحدهم فاهه على اتساعه ازدادت قوته في التأثير، ويرد عليه خصمه، في الجهة المُقابلة بالطريقة ذاتها. هكذا تتحول الساحة تدريجياً، إلى سمفونية صراخ بإيقاع واحد ومُتسارع، والغلبة فيها لا تكون سوى لصاحب النفس الأطول، واللسان الأكثر حدة، وليس لصاحب الحجة والدليل.
هذا ما يحدث أمام الأعين، في المقاهي والشوارع، على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، الكل يتكلم ولا أحد يملك وقتاً للاستماع للآخر، فالجزائري، بطبعه، يتقن فن الكلام لا فن المُحاورة، يحب أن يكون في زاوية المتكلمين لا في زاوية المُنصتين، لكن هذا الأمر ليس استثناءً، قد نجد الأمر كذلك في أمكنة أخرى ومجتمعات مُجاورة، الاستثناء هو أن النخبة السياسية نزلت، في الفترة الأخيرة، إلى الدرك الأسفل، تبنت «الصراخ» في كلامها، وامتهنت «الديماغوجيا»، طور السياسيون قاموس الشتم والذم وراحوا يرددون ما يُريد الآخرون سماعه، ويُبالغون في تدوير «شعبوية» سمجة، يمدحون من يُريد الناس مدحه ويذمون من يريد الناس ذمه.
في الجزائر، من الصعب أن نصنف النخب السياسية، يميناً أو يساراً أو وسطاً، فهذه تقسيمات تقليدية، اضمحلت، منذ عقود، والفوارق بين السياسيين، وأتباعهم ممن يُحسبون على النخبة المثقفة، تقوم على حساب «جرعة» الديماغوجيا، في كلامهم وفي خطاباتهم المكتوبة، هكذا يُمكن أن نصنفهم بين أحزاب «قليلة الديماغوجيا» وأخرى «مُضاعفة الديماغوجيا»، المنطق لم يعد من أولويات النخب النشيطة، في البلد، والعقلانية ليست من اهتماماتهم، يعنيها، بالدرجة الأولى، أن تسير في مجرى «العامة»، يهمها أن تلوك كلاماً يُوافق ميول الغالبية، من الشعب، ولا ضرر إن كان ذلك يتعارض مع قيم الجمهورية، ويُخالف تشريعات دستور الدولة.
ازدهار «الديماغوجيا»، في السنوات الأخيرة، هو نتيجة طبيعية وحتمية، للتحولات التي مر بها المجتمع، فالمواطن يعتقد، في داخله، أنه جرب وصفة «الديمقراطية» (مع العلم أنها كانت ديمقراطية غير أصلية، مستوردة من مصانع مزيفة)، ولم يجد فيها حلولاً سريعة لمشاكله اليومية، شغلا، سكنا، إلخ. بالتالي لجأ إلى خطابات الشعبويين، ارتمى في أحضانهم، بدون مُساءلة، وراح يصفق لهم، ويحرض النخب على ممارسة ديماغوجيتها، لأنها توفر له «مُسكناً» لحظياً، «صك أمان» يُحيله إلى التوهم والانغلاق على الذات، كي لا ينظر إلى الواقع، لا ينتبه إلى حاله، ولا يجدد أحزانه إزاء ما وصل إليه من هزائم نفسانية.
الديماغوجيون، هم الوحيدون الذين تعلموا التلصص على العامة، ثم إسماعها ما يُشبع كبتها، علموا الجزائري أن يلعب دور «الضحية»، فتقمص هذا الدور يخفف من آلامه، هو ضحية مؤامرة، ضحية أيادٍ خارجية، ضحية غيرة وحسد الآخرين، وفي أحيان أخرى هو ضحية البيئة والسماء، إذا امتنع المطر عن الهطول، فالسبب هو النفوس غير الصافية، وإذا أمطرت، وغرقت مدن البلاد، في الوحل والمستنقعات، فالسبب هو النفوس الكافرة، التي لا تُريد خيراً بالعباد، هذا الخطاب العاطفي، الذي يستهدف أحاسيس المتلقي، وليس عقله، تنامى، بشكل لافت، في البلد، فالساسة، ومن والاهم من زمرة المثقفين، يهمهم أن ينفعل المتلقي، وهو يستمع إليهم، فرحاً أو حزناً، أن يضحك أو يدمع، المهم أن يتحرك قلبه، ولا يبحث عن تفسيرات أو حجج أو تبريرات منطقية، فالجزائري تعب من التفكير والتأويل، يُريد كلمات سهلة وحلولاً ميسرة، يُريد أن يقول له أحدهم: أنت بخير، وكل ما يحصل فإن السبب فيه هم أطراف تحسدك على النعم التي أنت فيها. ما هي النعم التي يعيش فيها الجزائري؟ غلاء المعيشة، تردي حال التعليم، اللامساواة وسطوة المعتقد على العقل!
الديماغوجيون يوهمون الجزائري أن بلده هو أفضل البلدان، أن العربية هي لغة الدنيا والآخرة وأن الأمازيغية تهدد الوحدة الوطنية، أن هجرة الأفارقة إلى الجزائر تهدد استقرار البلد وأن الانتفاض ضد الحاكم، مثلما فعلت شعوب أخرى، يقود إلى الفوضى، يكررون على سمعه أنه جاء من تاريخ مجيد، وأن «حساداً» تآمروا عليه، ولن يعود له مجده إلا إذا صوت لهم في الانتخابات، وسار بوصاياهم، وعلى نهجهم، في انتخاب الرجل، الذي يرونه الأنسب في حكم البلاد. أكثر الديماغوجيين نجاحاً هم أكثرهم قدرة على رد صدى الجموع، من يمتلك قدرة على إعادة سرد «عجز» العامة، وإسماعهم خيباتهم، التي يرددونها، في السر، ويعيشونها كل يوم، سيحوز حظوة، ويجد أكبر عدد ممكن من الأتباع، فالديماغوجي لا بد أن يكون متكلما جيداً، لا يحتاج إلى تعلم فن الإقناع، بل يحتاج فقط إلى تكرار خيبات المستمعين، وتذكيرهم بها.
ظاهرياً، الديماغوجيا هي نقيض الديمقراطية، هي فيروس المنطق، لكنها في الجزائر تصير «مكملاً سياسياً وثقافياً»، بدون ديماغوجيا لا تحلو حياة بعض الناس، في غيابها تفقد الخطابات معانيها، ويشعر الكثيرون بالنقص. الديماغوجيون الذي يملأون شاشات التلفزيون، ومواقع التواصل الاجتماعي، احتلوا أخيراً البرلمان، نصّبوا أنفسهم نواباً عن الشعب، مُمثلين للنوايا الحسنة، أسكتوا الجميع ومنحوا أنفسهم الحق الوحيد والمُطلق في الكلام، وكل شخص يفكر في معارضتهم، أو الرد عليهم سيتهمونه بمعاداة الوطن والوحدة القومية، ويلصقون به تهم المساس بالدين والخيانة، والتعامل مع قوى أجنبية. قبل أيام، في خرجة إعلامية غريبة، دعت جمعية ثقافية، في الجزائر، تستفيد من مال الخزينة العمومية، ومن هياكل وبنايات القطاع العام، إلى مسابقة شعرية «في مدح مسجد الجزائر الأعظم». المشكلة ليست هنا، فمن حقها تنظيم ما شاءت من مسابقات وماراثونات شعرية، لكن المشكلة أن المسجد غير منته، كيف نمتدح شيئاً غير مكتمل؟ وحين ينتهي سيحمل اسم شخصية سياسية، وليس دينية أو ثقافية.
بالتالي، فالمديح سيصب لا محالة في صالح الشخص، الذي سيُرفع اسمه على واجهة المسجد مستقبلا. وحين انتقد البعض هذه المسابقة الغريبة، راح أنصار الجمعية نفسها يصفونهم بمعاداة الدين، والإساءة للإسلام. هكذا إذن، كلما بدأ حوار جاد في الجزائر، سرعان ما يتحول إلى صراخ، وتنابز بالألقاب، وتصير المناقشة عراكاً، حيث كل واحد من المتخاصمين، يرد على الآخر باسم القومية والوطنية والدين وحب الوطن، لتضيع القضايا الأساسية، في زحمة الديماغوجيا.
من البداية، تأسست الجزائر الحديثة، على ديمقراطية هشة ورخوة، في وقت كنا ننتظر فيه أن تستقيم، ظهر الديماغوجيون، وتكاثروا في وقت قياسي، ما يعني أن الأمور ستظل تراوح نفسها، بل ستزداد سوءًا، على الأقل في الأعوام المقبلة.
في الجزائر، الجميع يتكلم في الوقت نفسه، الأصوات تتداخل في ما بينها، والصراخ يطغى على الحوار الهادئ. كل فكرة يُرفقها صاحبها بصوت عالٍ، فكلما فتح أحدهم فاهه على اتساعه ازدادت قوته في التأثير، ويرد عليه خصمه، في الجهة المُقابلة بالطريقة ذاتها. هكذا تتحول الساحة تدريجياً، إلى سمفونية صراخ بإيقاع واحد ومُتسارع، والغلبة فيها لا تكون سوى لصاحب النفس الأطول، واللسان الأكثر حدة، وليس لصاحب الحجة والدليل.
هذا ما يحدث أمام الأعين، في المقاهي والشوارع، على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، الكل يتكلم ولا أحد يملك وقتاً للاستماع للآخر، فالجزائري، بطبعه، يتقن فن الكلام لا فن المُحاورة، يحب أن يكون في زاوية المتكلمين لا في زاوية المُنصتين، لكن هذا الأمر ليس استثناءً، قد نجد الأمر كذلك في أمكنة أخرى ومجتمعات مُجاورة، الاستثناء هو أن النخبة السياسية نزلت، في الفترة الأخيرة، إلى الدرك الأسفل، تبنت «الصراخ» في كلامها، وامتهنت «الديماغوجيا»، طور السياسيون قاموس الشتم والذم وراحوا يرددون ما يُريد الآخرون سماعه، ويُبالغون في تدوير «شعبوية» سمجة، يمدحون من يُريد الناس مدحه ويذمون من يريد الناس ذمه.
في الجزائر، من الصعب أن نصنف النخب السياسية، يميناً أو يساراً أو وسطاً، فهذه تقسيمات تقليدية، اضمحلت، منذ عقود، والفوارق بين السياسيين، وأتباعهم ممن يُحسبون على النخبة المثقفة، تقوم على حساب «جرعة» الديماغوجيا، في كلامهم وفي خطاباتهم المكتوبة، هكذا يُمكن أن نصنفهم بين أحزاب «قليلة الديماغوجيا» وأخرى «مُضاعفة الديماغوجيا»، المنطق لم يعد من أولويات النخب النشيطة، في البلد، والعقلانية ليست من اهتماماتهم، يعنيها، بالدرجة الأولى، أن تسير في مجرى «العامة»، يهمها أن تلوك كلاماً يُوافق ميول الغالبية، من الشعب، ولا ضرر إن كان ذلك يتعارض مع قيم الجمهورية، ويُخالف تشريعات دستور الدولة.
ازدهار «الديماغوجيا»، في السنوات الأخيرة، هو نتيجة طبيعية وحتمية، للتحولات التي مر بها المجتمع، فالمواطن يعتقد، في داخله، أنه جرب وصفة «الديمقراطية» (مع العلم أنها كانت ديمقراطية غير أصلية، مستوردة من مصانع مزيفة)، ولم يجد فيها حلولاً سريعة لمشاكله اليومية، شغلا، سكنا، إلخ. بالتالي لجأ إلى خطابات الشعبويين، ارتمى في أحضانهم، بدون مُساءلة، وراح يصفق لهم، ويحرض النخب على ممارسة ديماغوجيتها، لأنها توفر له «مُسكناً» لحظياً، «صك أمان» يُحيله إلى التوهم والانغلاق على الذات، كي لا ينظر إلى الواقع، لا ينتبه إلى حاله، ولا يجدد أحزانه إزاء ما وصل إليه من هزائم نفسانية.
الديماغوجيون، هم الوحيدون الذين تعلموا التلصص على العامة، ثم إسماعها ما يُشبع كبتها، علموا الجزائري أن يلعب دور «الضحية»، فتقمص هذا الدور يخفف من آلامه، هو ضحية مؤامرة، ضحية أيادٍ خارجية، ضحية غيرة وحسد الآخرين، وفي أحيان أخرى هو ضحية البيئة والسماء، إذا امتنع المطر عن الهطول، فالسبب هو النفوس غير الصافية، وإذا أمطرت، وغرقت مدن البلاد، في الوحل والمستنقعات، فالسبب هو النفوس الكافرة، التي لا تُريد خيراً بالعباد، هذا الخطاب العاطفي، الذي يستهدف أحاسيس المتلقي، وليس عقله، تنامى، بشكل لافت، في البلد، فالساسة، ومن والاهم من زمرة المثقفين، يهمهم أن ينفعل المتلقي، وهو يستمع إليهم، فرحاً أو حزناً، أن يضحك أو يدمع، المهم أن يتحرك قلبه، ولا يبحث عن تفسيرات أو حجج أو تبريرات منطقية، فالجزائري تعب من التفكير والتأويل، يُريد كلمات سهلة وحلولاً ميسرة، يُريد أن يقول له أحدهم: أنت بخير، وكل ما يحصل فإن السبب فيه هم أطراف تحسدك على النعم التي أنت فيها. ما هي النعم التي يعيش فيها الجزائري؟ غلاء المعيشة، تردي حال التعليم، اللامساواة وسطوة المعتقد على العقل!
الديماغوجيون يوهمون الجزائري أن بلده هو أفضل البلدان، أن العربية هي لغة الدنيا والآخرة وأن الأمازيغية تهدد الوحدة الوطنية، أن هجرة الأفارقة إلى الجزائر تهدد استقرار البلد وأن الانتفاض ضد الحاكم، مثلما فعلت شعوب أخرى، يقود إلى الفوضى، يكررون على سمعه أنه جاء من تاريخ مجيد، وأن «حساداً» تآمروا عليه، ولن يعود له مجده إلا إذا صوت لهم في الانتخابات، وسار بوصاياهم، وعلى نهجهم، في انتخاب الرجل، الذي يرونه الأنسب في حكم البلاد. أكثر الديماغوجيين نجاحاً هم أكثرهم قدرة على رد صدى الجموع، من يمتلك قدرة على إعادة سرد «عجز» العامة، وإسماعهم خيباتهم، التي يرددونها، في السر، ويعيشونها كل يوم، سيحوز حظوة، ويجد أكبر عدد ممكن من الأتباع، فالديماغوجي لا بد أن يكون متكلما جيداً، لا يحتاج إلى تعلم فن الإقناع، بل يحتاج فقط إلى تكرار خيبات المستمعين، وتذكيرهم بها.
ظاهرياً، الديماغوجيا هي نقيض الديمقراطية، هي فيروس المنطق، لكنها في الجزائر تصير «مكملاً سياسياً وثقافياً»، بدون ديماغوجيا لا تحلو حياة بعض الناس، في غيابها تفقد الخطابات معانيها، ويشعر الكثيرون بالنقص. الديماغوجيون الذي يملأون شاشات التلفزيون، ومواقع التواصل الاجتماعي، احتلوا أخيراً البرلمان، نصّبوا أنفسهم نواباً عن الشعب، مُمثلين للنوايا الحسنة، أسكتوا الجميع ومنحوا أنفسهم الحق الوحيد والمُطلق في الكلام، وكل شخص يفكر في معارضتهم، أو الرد عليهم سيتهمونه بمعاداة الوطن والوحدة القومية، ويلصقون به تهم المساس بالدين والخيانة، والتعامل مع قوى أجنبية. قبل أيام، في خرجة إعلامية غريبة، دعت جمعية ثقافية، في الجزائر، تستفيد من مال الخزينة العمومية، ومن هياكل وبنايات القطاع العام، إلى مسابقة شعرية «في مدح مسجد الجزائر الأعظم». المشكلة ليست هنا، فمن حقها تنظيم ما شاءت من مسابقات وماراثونات شعرية، لكن المشكلة أن المسجد غير منته، كيف نمتدح شيئاً غير مكتمل؟ وحين ينتهي سيحمل اسم شخصية سياسية، وليس دينية أو ثقافية.
بالتالي، فالمديح سيصب لا محالة في صالح الشخص، الذي سيُرفع اسمه على واجهة المسجد مستقبلا. وحين انتقد البعض هذه المسابقة الغريبة، راح أنصار الجمعية نفسها يصفونهم بمعاداة الدين، والإساءة للإسلام. هكذا إذن، كلما بدأ حوار جاد في الجزائر، سرعان ما يتحول إلى صراخ، وتنابز بالألقاب، وتصير المناقشة عراكاً، حيث كل واحد من المتخاصمين، يرد على الآخر باسم القومية والوطنية والدين وحب الوطن، لتضيع القضايا الأساسية، في زحمة الديماغوجيا.
من البداية، تأسست الجزائر الحديثة، على ديمقراطية هشة ورخوة، في وقت كنا ننتظر فيه أن تستقيم، ظهر الديماغوجيون، وتكاثروا في وقت قياسي، ما يعني أن الأمور ستظل تراوح نفسها، بل ستزداد سوءًا، على الأقل في الأعوام المقبلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.