في الوقت الذي يغرق الغرب في ماديته ويميل نحو الوقائع الملموسة والأكثر حسية سواء في الحياة المعاشة أو عبر الكتابة،يظهر نمطا آخرا من الكتابة يتبنى تيارا مغايرا .إنه التيار الذي يبحث بديمومة عما وراء المظاهر المادية للعالم. ويعتبر الكاتب البرازيلي "باولو كويلو" ضمن هؤلاء القلة الذين يفسحون المجال للبحث في روحانية الكون عبر الانسحاب من الغرق في التفاصيل الحسية للواقع وتفريغ مساحات شاسعة لحلول الإيمان الراسخ بوجود عوالم أخرى أكثر قوة وثباتا،هذه العوالم التي تساعد الإنسان على اعادة اكتشاف ذاته وهذا ما يؤكده كويلو في أحد حواراته قائلا : "إيماني عميق بأننا نختبر التحول على الدوام. لهذا نحن في حاجة لأن ندع الحياة تقودنا إلى السرّ عوضاً عن أن ندفعها باتجاهه." * * * كويلو الذي عرفه القارئ العربي عبر روايته الأشهر "الخيميائي" والتي ترجمت أيضا تحت عنوان "ساحر الصحراء" التي تناول من خلالها عبر بطله الذي يسافر للبحث عن الكنز في مصر عوالم "الداخل الروحانية" التي تنقل تفكير الانسان من جانب الى آخر وتساعده على والولوج الى مناطق معتمة من ذاته حيث الكنز مدفون في أعماق روحه.هذه العوالم موجودة أيضا في رواية "حاج كومبستيلا" التي يحكي فيها عن تجربته في الحج الى مزار يعقوب.كويلو الذي يصف شخصيات رواياته بالقول :"كل الشخصيات في رواياتي تخوض رحلة البحث عن روحها." يتضح هذا البحث بشكل جلي في سائر رواياته أيضا كما في "فيرونيكا تقرر أن تموت" و"احدى عشر دقيقة"،"على نهر بيدرا جلست وبكيت"،ثم في رواية "ساحرة بورتبيللو". * * * تدور أحداث رواية "ساحرة بورتبيللو" بين دبيوبيروت ثم لندن، وهذه هي المرة الثانية التي يعود "كويلو" الى الشرق في كتابته بعد ان كتب عن مصر في رواية "الخيميائي".أما أسباب اختياره لمدينتي بيروتودبي فيبررها بقوله"إن مدينتي بيروتودبي مدينتان مذهلتان. ما يجذبني إليهما ليس بالضرورة ما قلته عن سمعة الفوضى والصخب أو الانفتاح والتضاد، بل نواحيهما الأخرى المختلفة جداً. بيروت بالنسبة إليّ مدينة في صراع مستمر، وأنا مثلها أعيش الحالة ذاتها. أما دبي، فهي إحدى أكثر المدن التي لفتتني معاصرة وتطوّراً. تتحدّى دبي زائرها بالصحراء والبحر اللذين يحيطان بها، فتبدو وكأنها المعجزة التي لن تستحيل حقيقة والتي لن يفهمها أحد.المدنُ تشبه الناس. بيروتودبي لهما مزاجهما وأسلوبهما الخاص وطريقتهما في مواجهة الحياة. إنهما تفرضان نفسيهما في رواياتي. هناك دائماً مدينة ما تلوح في مكان ما من عقلي حين أشرع في كتابة قصة أو ابتكار شخصية. ولكن مع أنني أحب المدن، فأنا أشعر بالحاجة إلى إبعاد شخصياتي عنها، فالصحارى والغابات والجبال تأتي لتشكّل أمكنة موازية لهذه العواصم. وهذه المساحات الفارغة المشرّعة على التأمل تحضّ أبطال رواياتي على مواجهة أنفسهم. لكن هذا التأثر بالثقافة العربية الذي لا يخفيه كويلو،يعود الى أكثر من سبب،ربما من ضمن الاسباب ان هذه الثقافة فيها الكثير من الاجواء والروحانية التي يفضلها كويلو،ويستند اليها في نصوصه،ولعل هذا الامر واضح جدا في كتابته وهو لا يخفيه بل يوضحه قائلا في احد حواراته :" الثقافة العربية: منحتني نظرة أخرى إلى الحياة، مزيدا من الانفتاح ربما لأنها ثقافة قريبة من الصحراء، فهي تساعد على تبسيط الأمور من دون الوقوع في فخ التسطيح، منذ بدأت احتكاكي بالثقافة العربية بدأ الإلهام يأتيني بسهولة. الثقافة العربية تقيم اعتبارا كبيرا للأمور الخفية، لما هو غامض وسري.. أنا ككاتب أحتاج إلى مثل هذه الرؤية المخالفة.. إلى مثل هذا الفضاء" في رواية "ساحرة بورتبيللو" يروي كويلو قصة"أثينا" الطفلة الغجرية التي تعيش في ميتم ثم تتبناها أسرة لبنانية وتعيش سنوات طفولتها في بيروت قبيل الحرب.تظهر عند أثينا قدرات تنبؤية في معرفتها بعدة أحداث قبل وقوعها،ثم تبدأ رحلة "أثينا"في البحث عن ذاتها،يتخلل ذلك زواجها من شاب صغير زميلها في الدراسة،وانجابها منه طفل،ثم انفصالهما،واصرارها على الاحتفاظ بالطفل ورعايته.تبدو رحلة "أثينا" في البحث عن ذاتها رحلة شاقة تبدأ منذ لحظة طلاقها عن زوجها،وتحديها للكنيسة،ثم الانتقال الى دبي للعمل هناك،حيث تلتقي بأشخاص آخرين يؤدون دورهم في هذه المسيرة،هناك "نبيل الأيهي" الرجل البدوي الذي يعلمها كتابة الخط العربي،ثم هناك "بافيل بودبيسكي " جارها مالك الشقة الذي يفسح في داخلها مساحة لاستيعاب ماهية العلاقة الداخليةمع فعل "الرقص" والموسيقى،الرقص الذي يطلق طاقات الانسان الكامنة داخله والتي يجهل وجودها تماما،تقول أثينا :"كثيرا ما استخدمت الرقص كوسيلة اتصال بشيئ أقوى وأكثر اقتدارا مني" لكن في كل هذه الاكتشافات لم تجد "أثينا" ما تبحث عنه،كانت الطاقة التي تنبعث منها أكثر اشعاعا من محدودية الفنون التي مارستها سواء كان في الرقص أوالخط. اختار كويلو في كتابة رواية "ساحرة بورتبيللو" القص عبر لسان أشخاص عدة،لكن جميع هؤلاء الاشخاص يدورون في حكاياتهم حول محور واحد هو "أثينا"،جميعهم ارتبطوا معها بعلاقة ما، سميرة والدتها بالتبني،لوكاس زوج "أثينا"،هيرون راين صحافي وارتبط مع أثينا" بقصة حب من طرف واحد،ديرو أونويل طبيبة وصديقة "أثينا" في عالم الاكتشافات الروحانية،الأب جيانكارو فونتانا،أندريا ماك كاين تعمل في التمثيل المسرحي،أنطوان لوكادور مؤرخ،هناك أيضا بعض الشخصيات الجانبية التي أوكل اليها الكاتب جزءا بسيطا من عملية القص. يمثل الثلث الأخير من الرواية التصاعد الحدثي فيها،حين تبدأ "أثينا _"أو "شيرين خليل" وهذا هو الاسم العربي لها الذي اختارته عائلتها بالتبني_بممارسة طقوس ظهور "الأم الكونية" عبرها،أو "آيا صوفيا"،يتجلى هذ الظهور في البداية مع الفرقة المسرحية في المسرح اولا ثم في بيت "أثينا"حيث تبدأ "أثينا" في ممارسة قدرتها التنبؤية الخارقة،والحديث عن أشياء مجهولة في حياة الأشخاص،تنبيههم من ضرر،أو تحذيرهم من مرض ما،أو الحديث عموما عن طاقة الحب الكوني،لكن سرعان ما ينتشر الخبر ويذاع بين الناس في منطقة "بورتبيللو" في لندن عن وجود ساحرة لها قدرات خارقة ومعجزات،هذا الحدث الذي سبقه التطور الملحوظ في سلوك "أثينا" وحواراتها مع الاشخاص،في التعبير عن رؤيتها للعالم ومحاولة ايصال هذه الرؤية الى الناس كأن تقول في أحد حواراتها مع أندريا :"أبقى شبه واعية طوال الحالة،لكنني أقول أشياء منبعثة من جزء مجهول بي.كما لو أنني أرضع من ثدي الأم حليبا يتدفق في كل النفوس ويحمل المعرفة الى كل الأرض". يختتم كويلو روايته بأسلوب بوليسي متصاعد وشيق،عبر لجوئه الى حيلة موت "أثينا" أو على الأصح الإدعاء بأنها ماتت قتلا على يد عصابة دينية مجهولة وجدت فيما تقوله هرطقات وجب التخلص منها،لكن هذا الحدث يكون مجرد ادعاء للقيام بهروب "أثينا" الى منطقة مجهولة،والبدء بحياة جديدة هناك بعد أن ذاع سر قدراتها الخارقة في لندن وتعرضت لصعوبات وجب عليها الفرار منها. إن غاية كويلو في هذه الرواية التركيز على ماهية "الحب"؛ الحب الكوني الذي ينبعث من الأرض ويغمر العالم،"الحب" الذي يفيض كالنهر المتدفق لكننا لا نبصر ماءه العذب.إن هذه الطاقة الكبيرة للمحبة كما يرى كويلو هي الوحيدة التي ستنجد الانسان من كل الشرور والآثام،وستقوده للسلام الداخلي.يقول في ختام الرواية عبر لسان أحد الشخصيات :"الآن أدري أن الحب يحدث ببساطة".