يوهانِس فيرمير رسّام هولندي ولد في مدينة «دلفت»، الواقعة غرب هولندا بين لاهاي وروتردام، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1632 وتوفّي فيها في ديسمبر/كانون الأول عام 1675، يعتبره مؤرّخو الفنّ التشكيلي أحدَ عباقرة الرسم الباروكي في القرن السابع عشر الميلادي، عاش مغمورا ومات مغمورا، ولم يُعرفْ خارج مدينته إلا مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما اهتمّ الناقد التشكيلي الفرنسي جوزيف تيوفيل توري بالبحث في سيرته الشخصية، حيث خصّص له ثلاثَ مقالات في مجلة «الفنون الجميلة» عام 1866 عرّف فيها بإبداعاته وعدّد مجموع لوحاته التي كانت معروضة آنذاك في متحف لاهاي بدون اسم أو بأسماء مجهولة. ومن أشهر تلك اللوحات نذكر «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» (متحف لاهاي) وهي اللوحة التي تحوّلت إلى فيلم يحمل الاسمَ نفسَه، أخرجه البريطاني بيتر ويبر عام 2003 وأدّت فيه دور البطولة الممثلة سكارليت جوهانسون، و«الرجل النبيل والمرأة يحتسيان الخمر» (متحف برلين)، و«رسالة حبّ» و«الخادمةُ تَصُبُّ الحليب» (متحف ريكس في أمستردام)، و»صانعة الدانتيلا» (متحف اللوفر)، و»الشابة وإبريق الماء» (متحف الفن في نيويورك). الفنّانُ المَغْمورُ المعلوم أنّ لوحات فيرمير أثّرت، بما لها من خصوصيات ثيمية وفنية، في الكثير من الرسّامين مِمّن جايلوه أو من الذين جاؤوا بعدَه على غرار بيتر دي هوك، وجوناثان جونسن، وتوم هنتر وسلفادور دالي، الذي رسم سنة 1934 لوحة بعنوان «شبح فيرمير». وممّا يُذكر من سيرة يوهانس فيرمير أنه من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى الهولندية، كانت أمه «دِينْيَا» تعمل بالبيت وكان أبوه رانِيِيه فيرمير يبيع القماش واللُّقَى الفنية، وربّما كان هذا سببا من أسباب تعلّق فيرمير منذ صباه بالفنّ التشكيلي. تزوّج عام 1653 من كاترينا بوايز، وهي من عائلة ميسورة، تكفّلت والدتُها بتوفير سكنٍ لهما وتمكينهما من أسباب العيش المُريح لفترة معيّنة، حيث وُجِدَ في بيته بعضُ الخدمِ لعلّ منهم الخادمة «تانيك إيفربول» التي يُرجّح الباحث إرنست غمبريش في كتابه «تاريخ الفن» (منشورات فيدن 2003) أن تكون هي المثال الذي استوحى منه فيرمير لوحته الشهيرة «الخادمةُ تَصُبّ الحليب». انضمّ فيرمير بداية من عام 1653 إلى نقابة الفنانين في مدينة دلفت، ثم ترأسّها في ما بعد. ولا نعرف عن فيرمير بمَن تأثّر ممَّن سبقوه من الرسّامين، ولا نعرف عنه ترحّلا في المكان سوى أنه سافر مرّة من مدينته دلفت إلى مدينة أمستردام، ذلك أنه كان كثير الانقطاعِ لفنّه وعائلته. ومع اندلاع الحرب الفرنسية الهولندية عام 1672، بدأ وضعُه المادي يشهد تقهقرا، وقلّت مبيعاتُ لوحاته، ما اضطرّه إلى الدين من أكثر من جهةٍ إلى أنْ تُوفّي يوم 16 كانون الأول/ديسمبر 1675 عن عمر يناهز الثالثة والأربعين عاما، تاركا مجموعة من الأبناء وأرملة فقيرة لم تجد بدا لإعالة أطفالها (وقد مات منهم أربعة وهم صغار) سوى كتابة عرائض وجّهتها إلى المحكمة العليا الهولنديّة تلتمس منها التدخّل لفائدتها من أجل سداد ديون عائلتها، ونظرا إلى عدم تلقّيها ردّا من هذه المحكمة التجأت إلى بيع عشرين لوحة من لوحات زوجها بأسعار زهيدة عام 1677، اشتراها تاجر تُحفٍ مغمورٍ ولم يُعرَف مصيرُها إلى الآن. تشهد لوحات فيرمير المعروفة على كونه كان بارعا في صيد اللحظة المعيشة صيدا فنيًّا، فهو يلتقطها من محيطه، وينقلها إلى لوحته بكلّ عفويتها وحرارتها الاجتماعية ضاخًّا فيها كثيرا من الحياة، وكثيرا من الاستعارات، أي إنه يفتح المألوفَ ممّا يرى على ما فيه من كنوز جمالية ظلّت مطمورةً فيه عن عين المُشاهِد العاديِّ، يفعل ذلك عبر تدبير ذكيّ لعلاقة الجمالي بالوجداني، ولعلاقة الشكل باللون، ولعلاقة المتخيّل بالواقع. ومن أشهر لوحاته لوحته الموسومة ب»الخادمةُ تَصُبُّ الحليب» الموجودة في متحف ريكس في أمستردام، وهي لوحة ذاعت شهرتُها منذ بداية القرن العشرين، إذْ استثمرتها كثرةٌ من شركات الألبان أيقونةً إشهارية لمُنْتجاتها. وقد عمل متحف اللوفر على توفير شروط استقدامها من هولندا إلى باريس وهو يعرضها الآن، مع إحدى عشرة لوحة لهذا الرسّام، ضمن فعالية بعنوان «فيرمير وفنانو الحياة اليومية» ابتداء من شهر مارس/آذار 2017. اللّوحة الفحُّ يُرجِّحُ مؤرّخو فنِّ يوهانس فيرمير أنّه كان قد رسم لوحتَه «الخادمةُ تَصُبُّ الحليب» بين عاميْ 1658 و1661، وهي الفترة التي شَهِدَ فيها سعةً في العيش، بسبب دعم والدةِ زوجته له وإقبالِ السيّاح الأجانب على لوحاته، التي كان يعرضها في ساحات دلفت. الظاهر من هذه اللوحة أنّ فيرمير اعتمد في رسمها ثلاثةَ ألوان: الأصفر والأخضر والأزرق وما يكون بينها من اتصال، تُظهر اللوحة خادمةً في مطبخٍ تتوسّط المشْهَد وتَصُبّ الحليب من إناء فخّاريّ في إبريق، وخلفها حائط فيه بعض المسامير وآثار مسامير أخرى مقتَلَعَة ربّما توحي بأن لوحاتٍ كانت معلَّقةً عليه (أيكون فيرمير قد نزعها من حائط اللوحة حتى لا تشتِّتَ انتباه المُشاهِد؟). وتظهر فوق الطاولة سلة خبز أسمر مدوَّرٍ بعضُه موزّع على الطاولة، وخلف المرأة تظهر مدفأة تقليدية من تلك التي توضع لتدفئة الأرجل، وبعض قطع الجليز الهولندي أسفل الحائط حاملة لرسومات زرقاء. أمّا من جهة يمين الخادمة، فهناك نافذة بلّورية تتسرّب منها أشعّة الشمس وفيها فصٌّ بلّوريّ منزوعٌ سبّب تآكُلاً في الحائط أسفل تلك النافذة، وفي الأعلى من جهة اليمين أيضا، توجد سلّة معلّقة وإبريق بلون نحاسيٍّ يُحيلان إلى كون المطبخ عامرًا بالحياة. ومتى حاولنا تأويل حكاية المشهد المرسوم في اللوحة قلنا إنّ فيها سكونًا ينوسُ بينها وبين رائيها، هي لحظةُ سكونٍ عامرةٌ بالحياة، فالخادمة تصبُّ الحليب في الإبريق بتُؤدة يكاد يصلنا منها صوتُ انسكاب الحليب، وكأنّها استشعرت أنَّ شخصًا مّا يراها، بل إنّ في حيائِها ودقّةِ حركتها ما يُحيل إلى كونها تعرف أنّ مُشاهِدًا مّا سيراها في يومٍ مّا وفي مكانٍ مّا، وهي تخشى أنْ تُسبِّبَ نظراتُه لها إرباكا لحركتها، ومن ثَمَّ اتخذت هيئةً صارمةً ممزوجةً بحياء ريفيٍّ هو ممزوجٍ بدوره بواقعيّةٍ فذّةٍ، وأمسكت الإناءَ بيديْها مَسْكًا واثِقًا نُلفي له صورةً في تشنّج عضلات يدها اليُسرى. ولعلّ براعة فيرمير في إشاعة الحياة في هذه اللوحة تتجلّى في جعلِه كلَّ شيء في جسد الخادمة ينزلِقُ بعَيْن المُشاهِد إلى حيث ينسكب الحليب، بل إلى حيث تبدأ حكاية الحليب: فالخادمة تتلذّذ حركةَ انسكابه في الإبريق، بل إنها تتعمّد التمهّل في ذلك حتى تمنح نفسها أكبر قَدْرٍ من المُتعة، وربّما لتصطاد رائيها وتأخذَ أكبر قَدْرٍ من وقتِه وتجعله يغرق في تفاصيل اللوحة، أي في تفاصيلِها هي، كما لو أنها تتبادل معه الأدوار؛ فهي تستدعيه لتُنسيه صفتَها (الخادمة) ولتُخضعَه لأوامرها الفنية، فيظلّ مُطيعا لسُلطان إيحاءاتها واستعاراتها، يخدِمُها بتأويلاته.