يجب دفن الموتى وإصلاح الأحياء، في فيلم "إصلاح الأحياء" للمخرجة الفرنسية الشابة كاتيل كيليفيري لا نحسُّ أنها توجه مجرد خطاب جاف ومباشر يدعونا لتقديس الحياة وتقديمها على الموت، ولا تمرير نصيحة تدعونا فيها أن نتبرع بأعضاء جسدنا أو أجساد أقربائنا في حالة الموت السريري من أجل انقاذ حياة آخرين، يذهب الفيلم أبعد من ذلك بكثير لتتصافح الحياة مع الموت ويستمر القلب العاشق في الحياة والعشق أيضا، لعل حياة العشق ونبضها هي من صبغت الفيلم بنكهة خاصة ودفعت بالحكاية لتأخذ منعطفات درامية وتراجيدية مدهشة. ملخص قصة الفيلم ليست معقدة ولا يوجد بطل أو بطلة ولا عقدة صعبة، فالحكاية يمكن تلخيصها في كلمات قليلة كالأتي : يصاب الشاب الصغير سيمون في حادث سير ويعجز الطب بسبب موته السريري، يظل قلبه ينبض، يطلب المستشفى من والديه التبرع ببعض أعضائه وخاصه قلبه وخصوصا قلبه كونه ميت والتبرع سينقذ بعض الأحياء وعليهم الرد خلال ساعات قليلة وبعد تفكير تكون الموافقة ونتعرف على كلير التي تعاني من مرض القلب ويتم تبليغها بوجود قلب وعليها أن تتخذ قرارها بسرعة دون تزويدها بأي معلومات عن صاحب القلب وفعلا توافق ويتم إجراء العملية. الفيلم المأخوذ من رواية بنفس العنوان وهي رواية وجدت سمعة جيدة، وقد تقارب الفيلم مع الرواية في محتوى الحكاية ولكن المخرجة تفننت في عرض القصة لتتعرض لقضايا عديدة وكان منطلقها سيمون الشاب العاشق ثم بسرعة تكون الفاجعة أي حادثة السير وإصابة سيمون ومن هنا تبدأ رحلة القلب، نحن نسمعه ينبض وهذا الجسد الميت وندخل في تعقيدات متشعبة، فنحن مع أسئلة صعبة وقرارات يجب أن تتحدد بسرعة وهنا نقف ونعيش أحاسيس إنسانية مفجعة. ميليس دو كيرنجا توضح أن روايتها رواية حب ورحلة هذا القلب الشاب والمحب يستثمر في عدة عناصر رمزية ويتعرض لموضوع الموت عن قرب والرواية أشبه بحالة تزلج على الأمواج لعرض الحب بمعناه الواسع فنراه يركض في ميدان رحب وليس محصورا في زاوية ضيقة والرواية تتسلل إلى القلب وليست خطابا عقلانيا. كاتيل كيليفيري ترى أن عمل فيلم يعني أن تكون حرا وكذلك أن تخلص للرواية عندما يكون العمل مأخوذ من عمل أدبي ولكن علينا فهم الاخلاص ليس بمفهومه الشكلي بل أن تخلص يعني توصيل المعاني والأفكار العميقة وتناقشها بجدية وتعيد تعميقها ومن حسن حظها أن الكاتبة تركت لها مطلق الحرية لهذا لم يكن هدفها عرض الرواية وتكرار ما قالته بل التفكير بطريقة جديدة لعرضها سينمائيا خصوصا أنها تعلقت وأحبت الرواية وهذا زاد من فضولها ورغبتها في معالجتها سينمائيا بشكل مختلف فكان الفيلم شبه سلسلة متعلقة بين الحياة والموت لكن الحياة هنا تنبض ولا يعني هذا الشماتة أو هزيمة الموت فعندما يموت سيمون ويتم خلع قلبه وتوقيف الأجهزة الطبية، نرى جسد الشاب منيرا وجميلا وغير مشوه فظلت القداسة لهذا الجسد. الفيلم لم يطرح أسئلة فكرية أو فلسفية حول الموت ولم تكن هذه قضيته وكانت الأسئلة حول السماح بالتبرع ببعض الأعضاء، وهذه أسئلة أخلاقية وقضية اجتماعية فكلمة نعم تعني حياة جديدة لقلب الشاب وكلمة لا كانت ستكون موته وموت شخص آخر. الممثلة آن دورفال التي جسدت شخصية كلير المرأة التي حصلت على قلب سيمون ترى أن الفيلم دعوة محبة ودعوة للحياة وهو ليس فيلما طبيا ولا وثائقيا، إنه دراما تتحدث عن الحياة، فنحن مع قلب محب ويزرع في جسد امرأة عاشقة مما يعني امتداد حياة ويطيل في عمرها. كما نستعرض رأي الممثلة ايمانويل سينيه التي جسدت شخصية أم سيمون، وترى سينيه أن الفيلم مؤثر ويثير أحاسيسنا كونه مفعم بالإنسانية واعترفت أنها خافت من لعب الدور ولكنها تغلبت على مخاوفها وهي ليست نادمة، فالفيلم كان تجربة مهمة في حياتها الفنية وقد أنعش في داخلها مشاعر تعجز عن وصفها كوننا عندما نخاف من شيء ثم نتجاوزه نشعر بالراحة ونكسب خبرة حياتية ومهنية مهمة. كما تم إضافة شخصية عازفة البيانو عشيقة كلير وهذه الشخصية كرمز للحب الذي يظل حيا ومتوهجا، تعددت وجهات نظر النقاد حول الفيلم وهناك شبه إجماع على أن البداية كانت قوية ومعبرة وتفننت المخرجة بتحريك الكاميرا بخفة وسلاسة مدهشة، العشر دقائق الأولى قذفت بنا في دهاليز حالمة نسجتها لغة سينمائية فنية مثيرة وتمنى البعض لو أن المخرجة ظلت مستمرة في طريقها بهذا النفس إلى نهاية الفيلم كون التفاصيل الطبية الدقيقة وعملية نقل القلب وغيرها زجت بالمتفرج في مناخات وثائقية أفسدت متعة الحكاية والثالوث المهم فيها أي الحياة والموت والعشق، كما طرح البعض أن الرواية تظل متوهجة وغنية بلغة حساسة وتصويرية تفوق في بعض الأوقات لغة الفيلم. هناك من يعدد نقاطا إيجابية وأهمها الكاستينج الرائع، فالفيلم جمع نجمات ونجوم ويشار بقوة إلى الممثلة آن دورفال وكذلك إلى النجمة المدهشة ايمانويل سينيه والممثل طاهر رحيم وجميع الكادر. مما يثير الدهشة هي تواضع هؤلاء الفنانين والفنانات، ونتعلم من هذه التجربة درسا مهما، فالفنان الحقيقي يتعلم من كل تجربة ولا يشترط دورا كبيرا ولا تعديلات في السيناريو ولا طريقة معينة في تقديمه ولا يتدخل في مهمة المخرج ونرى الفهم والإيمان بفيلمهم وما طرحه من مواضيع ونجدهم يتحدثون لوسائل الإعلام بثقة وقناعة، وكذلك عن وعي، فالتجربة الفنية ليست مجرد عقد عمل له فترة زمنية وينتهي، كل تجربة يخوضها الممثل تضيف إليه وتقوي رصيده الفكري والثقافي والفلسفي وهي أيضا تجربة إنسانية وروحية. .... سينمائي يمني مقيم في فرنسا