بعد معرض “خذني” للفرنسي برنار لافييه والذي عرضنا له في هذه الصفحة، يفتح متحف العملة بباريس فضاءاته لمعرض آخر لا يقل عنه غرابة واستهتارا بالذوق العام، بدعوى الخروج عن الأنماط السائدة. والمحتفى به، البالغ من العمر سبعة وستين عاما هو الفرنسي برنار لافييه، الذي درس زراعة الجنائن قبل أن يتحول منذ سبعينات القرن الماضي إلى ما يسميه الممارسة الفنية، ليسائل، بحسب قوله، علاقات الفن بالمعيش اليومي. بدأ لافييه مسيرته بإعادة طلي الأشياء في نطاق ما أسماه تأملات في الرسم الزيتي، فقام بطلي بيانو ونافذة وثلاجة ومرآة بنفس ألوانها الأصلية، ولكن بطبقة أكثر سمكا، زاعما أن الأثر يغدو بذلك الشيءَ وصورتَهُ في الوقت نفسه. وفي السياق ذاته أقبل على طلاء لوحة “طبيعة ميتة” لأندري لوت (1885/1962) دون أن يقيم وزنا للملكية الفنية وحقوقها، قبل أن ينتقل إلى مرحلة “والت ديزني” حيث استعاد الديكور الذي يتحرك فيه ميكي ماوس بألوانه، ليقرّبه، بحسب قوله، من المشاهد الذي يرى أشياء الحياة اليومية ولا يتوقف عندها ومنها مرّ إلى مرحلة التراكب، حيث كان يعمد كل مرة إلى وضع شيء فوق آخر، كوضع ثلاجة على خزنة، أو سندان على مكتب، أو آلة تصوير على الأرض. وعندما يسأل هل يمكن اعتبار حجر عادي موضوع على ثلاجة عملا فنيا، يجيب دون أن يطرف له جفن بأن الفن فضاء متفرد، في حراك دائم، وأن الفنانين يعيدون رسم حدوده بانتظام، وسواء استحسنا هذا العمل أو استقبحناه، فلا يمكن أن ننكر أنه منحوتة، إنه شيء موضوع على قاعدة، وهذا يلبي تحديدا مفهوم النحت. ولكي يوهمنا بأن المسألة ليست بالسهولة التي نتصور، يضيف أن جهده يتمثل في إيجاد الحجر المناسب على الثلاجة المناسبة، لمراعاة الشكل والكثافة والحجم، كذلك “مندرين بصيغتي دوكو وريبولان” حيث جمع جنبا إلى جنب طبقتين من اللون البرتقالي ليبيّن أن وراء لافتة مندرين أو ثمرة اليوسفي، يختلف البرتقالي باختلاف شركتي الصنع، فهو يؤمن بأن المهارة في الفن ليست حكرا على اليد بالضرورة، بل يمكن أن تخضع في الغالب للاختيار، اختيار لونين كما فعل ماتيس حين وضع الوردي والأخضر جنبا إلى جنب، أو اختيار أداة أو آلة والمكان المناسب لها، فالتوافق بين الأشياء له ما للتوافق بين الألوان من أهمية في نظره. وهو في ذلك إنما يسير على خطى مارسيل دوشامب مبتدع ال”ريدي ميد”، فقد نحا لافييه ذلك المنحى لاعتقاده بأن ال”ريدي ميد” هو ضرب خاص من ضروب الفن، تماما كالرسم والفن التشكيلي والنحت، ومن ثمّ أمعن في تجاربه المثيرة للجدل كعرضه في مطلع التسعينات سيارة “ألفا روميو” حقيقية تعرضت لحادث، ومنطادا مفشوشا، وقطعة من عمود كهربائي، ودبّا من وبر.. زاعما أنه يريد أن يجعل المألوف لدى الناس شاعريا. نحات يجعل المألوف لدى الناس شاعريا هذه المرة، اختار لافييه أن يحاور صديقه ريمون هانس (1926/2005) أحد رموز الواقعية الجديدة الذي لا يقل عنه مشاكسة، إذ صرّح مرة بأنه وزير الثقافة نفسه، من خلال معرض أريد له الجمع بين الصور والكلمات، كما قالت كيارا باريزي مديرة البرامج الثقافية لمتحف العملة، ومفوضة المعرض. في اثنتي عشرة قاعة تحمل كل منها ثيمة معينة ك”نصب صقّالة للمستقبل” و”سوق الزلاجات” و”أكثر استدارة من حرف O في جوطّو”، يستدرج لافييه زوار معرضه إلى التسلية والمشاركة في ما يشبه الفوازير، لأن غايته كما يقول هي دفع الزوار إلى فك شيفرة الأعمال المعروضة للوصول إلى الكلمة المفتاح للقاعة التي يوجدون بها. ففي القاعة الأولى مثلا توجد سيارتا “سيتروين” و”شيفروليه” صغيرتا الحجم يفصل بينهما صف من الشجيرات عددها ست وهي من نوع جنبة الرباط والجمع بين الكلمتين يعطينا “سيتروين”، وهكذا دواليك في مختلف القاعات، نفاجأ بلحاف ضخم مزين بألوان ضخمة يغطي وحده قاعة بحالها، أو مجموعة من الزلاجات مصففة عند ردهة، أو صقالة منصوبة حذو جدار. والغاية كما تقول مفوضة المعرض أن برنار لافييه كان يريد أن يقترح تجربة زيارة جديدة تماما بالنسبة إلى عشاق الفن، لخلخلة قناعاتهم ودفعهم إلى تصور الفن المعاصر تصورا مغايرا. وفي قاعات أخرى حيث علقت بعض أعمال هانس وآخرين يشتركون في هذه الحساسية الفنية الغريبة أمثال كريستيان بولتانسكي، وكلود كلوسكي، وجيرار غازيوروفسكي، وفاسيلي كادينسكي، وبيوتر كوفالسكي، ودفيد أوستروفسكي وغيغور سترافينسكي.. تجيء أصداء مكبر صوت يدعو الزوار إلى الالتحاق بالحفل، التحاقهم بأصدقاء يجتمعون في مقهى. ويقول لافييه “الفنانون لديهم واجب: أن يفعلوا ما يشاؤون، فهو المجال الذي يكون فيه ذلك ممكنا”.