الكاتب الهولندي المعاصر هيرمان كوش في روايته الأخيرة «منزل صيف فيه مسبح»، الصّادرة بالتوالي في كلّ من مدينتي أمسترداموبرشلونة في تواريخ متقاربة بعد ترجمتها مؤخّراً إلى لغة سيرفانتيس، ما انفكّ مستمرّاً في مشروعه الأدبي للكشف عن الوجه الحقيقي الخفيّ للمجتمع الذي يعيش في كنفه، ووضعه أمام المرآة لفضح، وتعرية العديد من القضايا والمواقف والتصرّفات، التي يعتبرها هذا الكاتب في أعماله الإبداعية تجاوزاًّ سافراً من طرف المجتمع، كآفة النّفاق الاجتماعي المتفشّية في كنف الأوساط البورجوازية والخلافات، أو المواجهات والتشنّجات التي تنشب بين الآباء وأبنائهم تحت ذريعة الحفاظ على الأعراف السائدة، والأخلاقيات المتوارثة التي أضحت تعرف نكوصاً، وتراجعاً إلى الوراء، وعدم مراعاة العوائد المتواترة التي لها صلة بالتربية على وجه الخصوص، والسّلوك اليومي المتبّع في حظيرة المجتمع الأوروبي المعاصر، ممّا قد يفضي – حسب منظوره- إلى نوع من التصادم، والارتجاج والمواجهات العنيفة، والمشاكسات القائمة بين الطرفين والمؤدية إلى نتائج وخيمة غير مُنتظرة، وغير مُتوقّعة ولا مُستحبّة قد تصل في بعض الأحيان إلى حدّ القطيعة والجفاء. صراع الأجيال تؤكّد الناقدة الإسبانية روسّا مورا: أنّ الكاتب الهولنديهيرمان كوش في هذه الرّواية يستمرّ في الخط نفسه الذي بدأه منذ سنتين في روايته السابقة لها التي تحمل عنوان «العشاء» التي كانت قد لقيت ترحاباً كبيراً من طرف القرّاء والنقّاد على حدّ سواء، والتي تحكي قصّة ثلاثة مراهقين كان في نيّتهم القيام بالسّطو وسرقة شبّاك أوتوماتيكي نقدي كان يوجد عند مدخل أحد المصارف، فوجدوا امرأة متشرّدة نائمة تحته ممّا عرقل عليهم عملية السّطو على الشبّاك، فقرّر هؤلاء المراهقون قتلها. وتؤكد الكاتبة الإسبانية أنّ هذه الأحداث تضاهي إلى حدّ كبير ما وقع بالفعل في مدينة برشلونة الكتلانيّة، منذ بضع سنوات، حيث أقدم شابّان مراهقان وثالثهما قاصر على إضرام النار في متشرّد كان نائماّ أو مستلقياً داخل مخدع شبّاك بنكي أوتوماتيكي كذلك». تدور أحداث هذه القصّة خلال عشاء ساهر في أحد المطاعم، بحضور آباء المراهقين المتورّطين لدراسة هذا الموضوع، والذين كانوا جميعهم ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية العليا في المجتمع، حيث كان يوجد من بينهم شخصية سياسية مرموقة كان مرشّحاّ لتولّي منصب الوزير الأوّل خلال هذه الأحداث . الرّواية الجديدة لهذا الكاتب تعالج في العمق موضوعَ النّفاق الاجتماعي السّائد في الأوساط الرّاقية، والمعاملات والعلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات، فضلاً عن صعوبة التواصل والتناغم والتفاهم بين الآباء والأبناء في المجتمعات المعاصرة في بلده هولندا، وفي أوروبّا بشكل خاص، كما تسلّط الرّواية الأضواء على الخطوط الحمراء أو حدود الحريّة الجِنسية والشّعور بعقدة الذنب في مجتمعٍ يعرف تفسّخاً، وانحلالاً كبيرين في العلاقات الأسرية (أزواج وزوجات) من جهة، وبين (الآباء والأبناء) من جهة أخرى. ويبدو لنا الكاتب في هذه الرّواية الجريئة وكأنّه يضع مجتمعه بعناية تحت مجهر دقيق لتعريته وتشريحه وفضح عيوبه ونقائصه. المظاهر خدّاعة يتعلق الأمر في هذه الرّواية بطبيب يُدعى (مارك سلوسر) يمتلك عيادة في مدينة أمستردام، يوحي منظرُه ومظهرُه الخارجيان بأنّه طبيب ناجح ومتفوّق ذو خلق واستقامة، ولكن حقيقته ليست كذلك، حيث سينكشف أمرُه عندما سيوجّه له أحد المتردّدين على عيادته من الممثلين المشهورين والميسورين (رالف مير) دعوةً لقضاء بضعة أيام صيفيّة في منزله الكائن على السّاحل المتوسّطي به مسبح جميل مع أبناء الأسرتين الذين ما زالوا في طور المراهقة، وخلال وجود الطبيب هناك سيقع حادث خطير لابنته ذات الثلاثة عشر ربيعاً، عندئذ سيقرّر الانتقام، ممّا سيفضي إلى إلغاء هذه الرحلة الاستجماميّة الصيفيّة، وحدوث تغير خطير في العلاقات بين الأسرتين. وتوعز لنا الرّواية في خضمّ هذه الأحداث المتواترة والمتشابكة والمتصاعدة، بأنّ أيَّ أحدٍ من شخصيات الرّواية يمكن أن يكون مذنباً، ولا أحد يمكنه أن يدّعي أنه بعيد أو لا دخل له بما يحدث، حتى إن كان مظهره أو تصرّفه – ظاهريّاً – يوحي بالطّيبة والبراءة، من الوقائع والأحداث التي عرفها هذا المنزل الصّيفي الذي يتوسّطه مسبح جميل. الحديد لا يفلّه إلاّ الحديد الكاتب الهولندي هيرمان كوش بارع في حبك الأحداث وتطوّرها، ورسم التعقيدات التي تطرأ عليها في نسق مثير ومتصاعد، لدرجة أنّ القارئ لا يفلت منه حتى يعرف حقيقة وجوهر ما يجري في هذه الرّواية حتى الصفحة الأخيرة منها. الرّوائي هيرمان كوش يتصارع مع واقع بلاده، ويواجه مجتمعه بصراحة غير معهودة، إنه يتحرّك – كما يعترف هو نفسه بذلك – بطريقة تلقائية وعفوية في قصصه ورواياته. وتتّسم معالجته لهذه المعضلات الاجتماعية روائياً بالجرأة، ويطبعها الحزم والقوّة، أيّ في مستوى صخبها وعنفها نفسه وعنفوانها وقساوتها في غالب الأحيان، فالحديد الصّلب لا يفلّه إلاّ الحديد. إنّه يسير في الدّرب نفسه الذي يسير عليه كتاب آخرون منهم السّويديّون ماخ سخوال، وبير واهلو، وهنينغ مانكيل، أو ستيغ لارسون، الذين اختاروا هذا الصّنف الأسود أو السّوداوي من الحكيّ لفضح العيوب، وتعرية النواقص في مجتمعهم وبلدانهم كتلك التي تبدو للناس من بعيد وكأنها جنّة أرضيّة للعيش الرغيد، كما يسير الكاتب في هذه الرواية على وتيرة مجموعة كاليفورنيا من كتّاب القصّة مثل رايموند شاندلر، وروس ماكدونالد، وجيمس إيلروي، وميكايل كونيلي الذين يدينون سوءَ استخدام أو استعمال العدالة في بلدانهم، فضلاً عن فضحهم للفساد الإداري والبوليسي والسياسي فيها، بل إنّنا يمكننا أن نضع هيرمان كوش في مصافّ الرّوائيين الأربعة المتوسّطيين (المنتمين لبلدان حوض المتوسّط) على وجه الخصوص الذين لهم باع طويل كذلك في هذا الصنف من الإبداع وهم: مانويل فاسكيس مونتالبان، وجان كلود إيزو، وأندريا كاميليري، وبيتروس ماركاراريس وسواهم الذين يَشرَحون أو يُشرِّحون زمنهم، وواقعهم بغيرِ قليلٍ من الجرأة، والصّراحة والحزم . يقوم الفنّ الرّوائي، أو عنصر الحكيّ عند هيرمان كوش على ثلاثة محاور رئيسية وهي: وصف البورجوازية في بلده، ورصد مشاكلها الاجتماعية، ومعالجة إشكالية العلاقات بين الآباء والأبناء، ففي روايته السّابقة «العشاء» يثيرالانتباه إلى النظام التربوي المتهالك في بلاده، كما يطرح في هذه الرّواية نفسها أمام الملأ والقرّاء التساؤل التالي: إلى أيّ مدىً يمكن أن يصل الأمر بالآباء في حماية أبنائهم؟ وهو السؤال نفسه الذي يعود ليطرحه بحدّة من جديد في روايته الحالية الأخيرة «منزل صيف فيه مسبح" وتعود الكاتبة والناقدة الإسبانية رُوسّا مُورَا، لتؤكّد لنا أنّ هذه القصّة في الواقع تشكّل ثلاثية روائية هي امتداد كذلك لرواية أخرى له يعالج فيها قصّة أب من عائلة متوسّطة ينساق وراء صديق قديم له منذ أيام الدّراسة، تحوّل فيما بعد إلى رئيس عصابة خطيرة، وهذا الأب يورّط ابنَه معه كذلك الذي لم يتجاوزالخمسة عشر ربيعاً من عمره في هذه الورطة. مجتمع آيل للتّداعي هيرمان كوش في روايته الأخيرة هذه يندّد، ويدين كذلك بشدّة النظام الصحّي في بلاده، يتساءل الدكتور مارك سلوسر بطل هذه الرّواية: كيف يعقل أن يكون في بلد فاحش الثراء مثل هولندا قوائم انتظار طويلة في المجال الصحّي؟ هذا الطبيب ضاق ذرعاً، لأنّ شيئاً مّا ليس على يرام أمسى يعتري النظام الصحّي في هذا البلد، ويصيبه بالخلل، ولابدّ أنّ هذا النظام سينهار من الفوضي لو بعث كلّ طبيب عام بمرضاه كلّ يوم إلى الإخصّائيين والمصحّات. وهذا ما يحدث مع الولادات أيضاً حيث أصبح ينصح بأن تتمّ في المنازل والبيوت بطرق طبيعية وتقليدية. ولهذا فإنّ نسبة الوفيّات لدى المولودين حديثاً في هولندا هي الأعلى في أوروبا كلها، بل إنها أعلى حتى من جزر المالديف. شخصية مثيرة للجدل والتساؤل، تفاجئنا في هذه الرّواية، إنه عالِم الأحياء المُسمّى «هارون هيرزي»، (وهو يمثل صوت اللاّوعي أو الضمير الخفيّ للطبيب) الذي يصرّح ويقول له ما لا يجرؤ الآخرون على قوله بصوت جهوريّ عالٍ: «لقد قمتَ بما كان ينبغي عليكَ القيامَ به، وما يجب أن يقوم به كلّ أب. ويضيف قائلاً للطبيب: «للأب دائما نوايا حسنة، ومشاعر صادقة، وواجب لا مناص منه وهو حماية ابنته، وصَوْنها، ولكنّه لا يضع في حسبانه أبداً حقوقَ الآخرين». وهيرمان كوش عند كتابته لهذه الرّواية لابدّ أنه كان يشعر بنوع من القلق من جرّاء الأزمة الخانقة التي أضحت تعصف بأوروبّا اليوم، إنه يقول في هذا الصّدد: «إنّنا في هولندا نعاني من هذه الأزمة كذلك، ولكن أزمتنا أقلّ حدّة وتفاقماً من إسبانيا»، كما يشير:» إنّ بلدانا مثل الصّين والبرازيل، أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى سوف تهيمن على العالم، الواقع أنّنا أصبحنا نعيش في الوقت الرّاهن في أوروبّا في كنف مجتمع، أو ثقافة، أو حضارة آيلة للسقوط والتداعي والانهيار». الكاتب الهولندي هيرمان كوش المولود عام (1953) يُعتبر في الوقت الرّاهن من الكتّاب البارزين المعاصرين في هولندا، ولقد حقّقت رواياته نجاحات متوالية في بلده وخارجه، كما أحرزت بعض أعماله الرّوائية الإبداعية على جوائز أدبية مهمّة، وترجمت إلى بعض اللغات الأوروبية منها الإسبانية على وجه التحديد، ولقد اعتبرت روايته «العشاء» (المشار إليها آنفاً) عام 2010 مفاجأة السنة الأدبية في بلاده، واختيرت «كأحسن كتاب في هذه السنة»، كما حازت «جائزة الجمهور»، وصدرت مترجمة إلى اللغة الإسبانية هي الأخرى كذلك في العام نفسه عن دار النشرالإسبانية – الكتلانيّة (سالاماندرا) في مدينة برشلونة .