الحقيقة الأساسية المتعلقة بالشاعر والكاتب البريطاني شين أوبرين هي أنه قد حظي بحياة عملية حافلة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انجازه شاعراً وناقداً، ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد أن ديوانه «الكتاب الغريق» قد جمع بين الفوز بجائزتي فورود وتي. إس. إليوت، وفي العام الماضي أصدر مجموعته القصصية «قاعة الصمت» التي تدور قصصها جميعها حول نيوكاسل الغارقة في الماء باطلالتها على نهر تاين. وها هي روايته الأولى «الآخرة» توظف الكثير من الأساليب الفنية القوطية التي اعتمدتها قصصه وذلك على الرغم من أن الموقع والمناخ هنا مختلفان، حيث نجد أنفسنا أمام صيف عام 1976 الحارق والريف الانجليزي الذي تستعاد ذكرياته بعد ثلاثين عاماً من حدوث وقائعها الأصلية.نحن حيال أربعة من الشباب خريجي كامبردج يهبطون على بلدة ديفوت الناعسة، القابعة في المستنقعات الولشية، ونجد أن جين جارمن وأليكس فبرون هما بمثابة نجمي هذه المجموعة الرباعية، فهما شاعران شابان حريصان على إحراز الشهرة والتألق، وتروي لنا الرواية على لسان مارتن ستون أحد أفراد هذا الرباعي، والذي يعد شاهداً سلبياً وبعيداً عن الثقة والتيقن مما يجري، ولهذا فإنه يحس بالذهول حيال موهبة جين الشعرية المتوهجة وقدرتها الفائقة على التركيز. وصديقة مارتن، التي تشكل الطرف الآخر في الرباعي، وهي سوزي، تعد بمثابة القطب المناقض تماماً لجين، فهي امرأة قوية ويعتمد عليها أو كما يضعها أوبرين «كانت الناضجة»، التي تعرف أنها لابد لها من تقبل خيبة الأمل». وقد أفلح مارتن في الحصول على منحة بحثية للاشتغال على أوراق توماس أكستون، وهو شاعر وقس متخيل يوجد أرشيفه في بلدة ديفوت. هكذا تتابع الأيام الحارة التي يقضيها الشباب متكاسلين أو عاكفين على الشراب في أقرب حانة، ويتصاعد التوتر بين جين الشاعرة الفعلية واليكس الذي سيغدو شاعراً، عندما تنشر جين إحدى قصائدها في الملحق الأدبي لصحيفة «تايمز» وتفوز بجائزة مرموقة وبعقد لنشر كتاب. عند هذا المنعطف من الرواية، يدخل الأغراب المشهد، متمثلين في شخصيتين أميركيتين، هما مارسي الباحث العصبي الذي عهد إليه بالمسؤولية عن أرشيف الشاعر إكستون المصور الفاتنة المندفعة دياني. سرعان ما سنتابع تخريب مسودة كتاب جين والقطعية بينها وبين اليأس، وعقب ذلك يأتي موتها حرقاً على نحو تحيط به الشكوك. بعد ثلاثين عاماً من هذه الأحداث، سنلتقي مارتن الذي أصبح استاذا في الجامعة المحلية والذي يعهد إليه بالإشراف على مهرجان ديفوت الشعري السنوي وإعادة دفن رفات جين في فناء كنيسة البلدة. ونلاحظ أن جين في آخرتها التي منحت عنوانها للرواية قد أصبحت شاعرة شهيرة تحظى بالتقدير، ونجد أن القيم على تراثها الشعري ليس إلا اليأس نفسه، الذي لا يتردد في التلاعب بشهرتها بمزيد من الحرص. ومع ظهور أليس في المهرجان الشعري يبدو وقوع مواجهة أمراً حتمياً، وهي تقدم نهاية ميلودرامية تجعل القارئ يشعر بغير قليل من عدم الارتياح. وشأن عدد غير قليل من قصص شين أوبرين، فإنه روايته الأولى تحظى بجانب ليس بالقليل من السخرية. الرغم من الإعجاب الكبير الذي حظيت به هذه الرواية لدي الكثير من النقاد الذين يصعب إرضاؤهم والقراء أيضاً، إلا أننا لابد أن نرصد عيوباً لا يستهان بها في هذا العمل. هناك إلى جانب النهاية الميلودرامية التي أشرنا إليها، الإحساس الذي لابد أن يساور القراء بأن الشخصيات لم يقدر لتكوينها أن يكتمل بما يحقق أقصى طاقاتها، فمارتن واليكس يشقان طريقهما من مراهقة امتدت طويلاً إلى منتصف عمر لا تنقصه الجلافة، بينما تبدو الشخصيات النسائية إما متسمة بالغموض أو مستسلمة لقدرها على نحو لا يمكن إلا أن يثير دهشتنا إلى أبعد الحدود. والكثير من الجوانب في الرواية لا توحي لنا بالاكتمال، فليست هناك بلورة حقيقية للشعور بالخسارة والفقدان حيال موت جين على سبيل المثال، ويبدو لنا أن المؤلف قد فرضه على الرواية لا لشيء إلا لتسهيل انسياب الحبكة. أخيراً يتعين أن نشير إلى جانب مهم في قائمة العيوب هذه، فخلافاً لما نجده في مجموعة «قاعة الصمت» من انغماس في الكلمات من جانب مؤلف هو شاعر في المقام الأول، نجد أن هذا البعد محدود على نحو مخيب للآمل في رواية «الآخرة». على سبيل المثال، فإن الصيف الحارق في الرواية بينما يوصف على نحو لا يسهل نسيانه، إلا أنه يظل بعيداً عن أن يكون شيئاً جوهرياً بالنسبة للسرد. هنا لابد لنا من أن نتذكر أن الشاعرة والروائية لافيينا جرينلو قد كتبت بدورها علن الحرارة المثقلة بالجفاف في عام 1976 في روايتها المستمدة من سيرتها الذاتية بعنوان «ماري جورج» وهي عمل نثري بديع التكوين. ومن المؤسف أن موهبة شين أوبرين المتألقة فيما يتعلق باللغة لم تلون بصورة مماثلة روايته الأولى. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الرواية تظل عملاً مهماً وجديراً بالقراءة تطل من الشمال البريطاني، الذي يعتقد الكثيرون أنه لم يعد لديه ما يقدمه للعالم على الصعيد الروائي. ولعله، إذا قدر لهذا العمل أن يترجم إلى اللغة العربية يوماً، أن يكون مصحوباً بمقدمة اضافية عن إبداع أوبرين الشعري بعامه وترجمته الشعرية الشامخة لدانتي اليجيري بخاصة وأيضاً إسهاماته النثرية وعلى رأسها هذه الرواية، فضلاً عن مساهماته النقدية المعمقة. ومن المحقق أن مثل هذه المقدمة لابد لها من أن تشمل إيضاحاً لمفهوم الآخرة الذي تطرحه الرواية في عنوانها والذي يقصد به التراث الذي يبقى من مبدع والذي يشكل، بعد رحيله، حياة أخرى بمعنى من المعاني. الكتاب: الآخرة تأليف: شين أوبرين الناشر: بيكادور لندن 2009